في سياق العلاقات الجزائرية الفرنسية التي طالما اتّسمت بالتعقيد والتجاذب التاريخي، فجّرت وكالة الأنباء الجزائرية مؤخرًا جدلًا سياسيًا وقانونيًا كبيرًا، حين كشفت أن الجزائر وجهت إلى العدالة الفرنسية 51 إنابة قضائية دولية وطلبات تسليم أشخاص مدانين في قضايا فساد ونهب أموال عامة، من دون أن تتلقى أي استجابة. هذا التعاطي الفرنسي، أو بالأحرى غياب التعاطي، يطرح أكثر من سؤال حول جدّية باريس في الالتزام بأطر التعاون القضائي، ويضعها – كما جاء في المقال الرسمي – موضع المتواطئ في ممارسات لا قانونية، بل إجرامية.
1. خلفية الإنابات القضائية: سيادة القانون أم سياسة الكيل بمكيالين؟
تندرج الإنابات القضائية الدولية ضمن أدوات التعاون القانوني بين الدول، وهي تستند إلى قواعد معترف بها في القانون الدولي، وتفترض مبدأ المعاملة بالمثل واحترام السيادة القضائية للدول. وقد بادرت الجزائر، في إطار مكافحة الفساد بعد الحراك الشعبي لسنة 2019، إلى تفعيل هذا المسار بهدف استرداد الأموال المنهوبة ومحاسبة المتورطين من المسؤولين الفارين إلى الخارج، وخصوصًا إلى فرنسا، حيث توجد ممتلكات وأصول ضخمة مشبوهة.
غير أن الجانب الفرنسي لم يبدِ أي تجاوب يُذكر، ما يُفقد هذه الآلية القانونية فعاليتها، ويحوّلها إلى مجرد حبر على ورق. فهل نحن أمام رفض سياسي مغلف بغطاء قانوني؟ أم أمام تواطؤ مقصود يهدف إلى حماية شخصيات مطلوبة قضائيًا مقابل حسابات تتعلق بالنفوذ، والمصالح، وربما حتى الابتزاز السياسي؟
2. الصمت الفرنسي: بين التسريبات العدائية والتقصير القانوني
جاء رد وكالة الأنباء الجزائرية في سياق حملة إعلامية فرنسية تقودها صحف مثل “ليكسبرس”، تحدثت عمّا سمّته “تسريبات” حول نية السلطات الفرنسية تجميد أصول مسؤولين جزائريين كرد على رفض الجزائر استقبال رعاياها الصادر بحقهم قرارات ترحيل.
هذا التوقيت والربط المشبوه بين موضوعين مختلفين قانونيًا (المهاجرون من جهة، والمتهمون بالفساد من جهة أخرى)، يكشف مستوى خطيرًا من التسييس للعمل القضائي، ويحوّل العلاقة بين الدولتين إلى ما يشبه حلبة صراع إعلامي غير أخلاقي.
وقد وصفت وكالة الأنباء الجزائرية هذا الأسلوب بأنه “ممارسات هواة”، يفتقر إلى الحد الأدنى من الحنكة الدبلوماسية، ويكشف عن ارتجال سياسي يعكس تخبطًا داخل صانع القرار الفرنسي في التعامل مع الجزائر الجديدة، التي لم تعد ترضى بسياسات الإملاء ولا بمنطق الاستعلاء.
3. من الجزائر الوهمية إلى الجزائر الحقيقية
ما يلفت في لهجة البيان الجزائري، هو التمييز بين ما سماه بـ “الجزائر المتخيلة” التي تسكن المخيلة الفرنسية: “النظام”، “النافذون”، “النخبة الحاكمة”… وبين الجزائر الحقيقية، الدولة والمؤسسات والشعب، التي تطالب فرنسا بوضوح وجدية بتفعيل التعاون القضائي وتسليم المجرمين.
ويبدو أن فرنسا، العاجزة عن صياغة سياسة متماسكة تجاه الجزائر، ما زالت تتعاطى مع هذا البلد عبر عدسات قديمة، متجاهلة التحولات العميقة التي طرأت على المجتمع والدولة بعد حراك 22 فبراير، والانخراط الوطني في مكافحة الفساد واستعادة السيادة على الملفات الحيوية.
4. تواطؤ بالصمت أم شراكة في الجريمة؟
إن رفض فرنسا الرد على 51 إنابة قضائية، وامتناعها عن تسليم المتورطين في اختلاس المال العام، لا يمكن تفسيره فقط على أساس الخلل الإداري أو البيروقراطي. بل إن هذا الصمت الممنهج قد يُقرأ قانونيًا كنوع من التواطؤ، أو على الأقل كإعاقة للعدالة، ما يضع باريس في موقع المساءلة الأخلاقية والسياسية، إن لم نقل القانونية أيضًا.
وإذا كانت فرنسا حريصة على محاربة “الفساد الدولي” كما تزعم، فلتبدأ – كما جاء في المقال الجزائري – بتنظيف إسطبلاتها هي أولًا، قبل أن تدّعي الوصاية الأخلاقية أو القضائية على الآخرين.
5. الجزائر الجديدة: مقاربة سيادية وواقعية
من الواضح أن الجزائر، في هذه القضية، تعتمد على خطاب سيادي متماسك، يعكس إرادة سياسية في قطع الطريق أمام حماية الفاسدين، سواء داخل البلاد أو خارجها. وتضع فرنسا، من خلال هذا الخطاب، أمام مسؤولياتها التاريخية والأخلاقية، دون أن تستجدي موقفًا أو تنازلًا.
هذا الموقف الجزائري يتقاطع مع التوجهات الدولية الجديدة، مثل “اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد” (UNCAC)، التي تنصّ على واجب التعاون القضائي الدولي في استرداد الموجودات، ولا سيما إذا تعلّق الأمر بأموال الشعوب المنهوبة.
خاتمة: نحو مقاربة متوازنة وشراكة نزيهة
إذا كانت فرنسا، كما تدّعي، تسعى إلى “شراكة استراتيجية” مع الجزائر، فإن أول اختبار لهذه الشراكة هو مدى احترامها لطلب الجزائر في قضايا مكافحة الفساد، والتعامل مع الإنابات القضائية بجدّية وشفافية.
وأي استمرار في تجاهل هذه الطلبات، لا يمكن فهمه إلا باعتباره اصطفافًا إلى جانب الفساد، وتقويضًا لجهود الجزائر في بناء دولة القانون.
لقد ولّى زمن الحماية القضائية لفاسدين يسرقون شعوبهم ثم يجدون الملاذ في الغرب. والعالم اليوم يتّجه، وإن ببطء، نحو عدالة عابرة للحدود، لا مكان فيها للانتقائية ولا للمعايير المزدوجة.
✍️ بلقاسم مرباح
جمعة طيبة مباركة
ردحذفالجزائر لا تطبع مع الصهاينة
ردحذف