في الجزء الأول من هذا المقال، سلّطنا الضوء على ما وصفه كثير من الجزائريين بـ"ميوعة الموقف الرسمي" تجاه الاستفزازات الفرنسية المتكرّرة، وعلى رأسها تجاوزات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، الذي أتقن فن الإهانة المغلّفة بالدبلوماسية الناعمة. وخلصنا إلى ضرورة التحرر من عقدة "الاستثنائية الفرنسية"، وبلورة سياسة خارجية تقوم على أساس الكرامة والمصالح الوطنية، لا العواطف التاريخية الزائفة.
في هذا الجزء الثاني، نستكمل التحليل لنرصد تطورات العلاقات الجزائرية الفرنسية خلال الفترة الممتدة من مارس 2023 إلى أبريل 2025، ونتساءل بجدية: هل لا تزال العلاقة قابلة للترميم؟ أم أن القطيعة المُنظّمة هي الحل؟
أولاً: بين التوتر المعلن والانبطاح المقنّع (2023 – 2024)
في أعقاب حادثة تهريب العميلة الفرنسية الجزائرية أميرة بوراوي من تونس نحو باريس، في فبراير 2023، دخلت العلاقات الجزائرية الفرنسية نفقاً جديداً من التوتر، كان من المفترض أن يُمثّل نقطة لا عودة. فقد ضربت فرنسا، مرّة أخرى، السيادة الجزائرية عرض الحائط، بإشراف مباشر من أجهزة استخباراتها.
ورغم استدعاء السفير الجزائري في باريس، وكلمات الغضب التي صدرت عن بعض المسؤولين، لم تتبع هذه الردود أي إجراءات ردعية حقيقية. بعد بضعة أشهر، عادت الأمور إلى ما كانت عليه، وبدأ الحديث من جديد عن "زيارة مرتقبة" للرئيس تبون إلى باريس، وكأن شيئاً لم يحدث.
إنّ هذا التذبذب في الموقف الرسمي لم يمرّ مرور الكرام على الرأي العام الجزائري. شبكات التواصل الاجتماعي، التي أصبحت بوصلة نبض الشارع، عبّرت عن رفض واسع لأي "مصالحة" لا تقوم على الاحترام المتبادل وردّ الاعتبار للسيادة الوطنية.
ثانياً: باريس لا تتغيّر... بل تتمادى
خلال سنة 2024، استمرت فرنسا في استخدام ورقة الذاكرة لتطويع الجزائر. فقد روّجت لمشاريع "مؤتمرات مشتركة"، و"أعمال بحثية حول الذاكرة"، و"زيارات رمزية لأرشيف الاستعمار"، دون أن تتجرأ، كما هو متوقع، على تقديم اعتذار صريح ورسمي عن جرائمها.
بل الأسوأ، أنّ ماكرون لم يتردد في التصريح، في إحدى خرجاته الإعلامية، أن "زمن الاعتذارات انتهى"، مؤكداً أن "الصفحات تُطوى لا تُفتَح". وفي هذا الموقف تكمن الوقاحة الفرنسية التي تتجاوز السياسة إلى إهانة الهوية. إذ كيف يمكن أن يطوي الجلّاد الصفحة، دون أن يُنصف الضحية؟
ومما زاد الطين بلّة، تواطؤ إعلامي فرنسي متواصل لتشويه صورة الجزائر، من خلال الحملات المتكررة التي تستهدف المؤسسات الجزائرية، والجيش، وحتى الثورة التحريرية، في محاولة مستمرة لـ"شيطنة" تاريخ الجزائر وطمس شرعيته.
ثالثاً: الجزائر تتغيّر... ببطء
لكن على الطرف الجزائري، لا بد من الإشارة إلى بعض المؤشرات الإيجابية الطفيفة التي ظهرت في العام الأخير، والتي توحي بأن هناك وعياً بدأ يتبلور، ولو على استحياء، بضرورة مراجعة علاقة الجزائر بفرنسا.
أبرز هذه المؤشرات:
-
رفض الزيارة إلى باريس التي كانت مقررة سنة 2024، دون تقديم الجانب الفرنسي أي توضيحات أو اعتذارات عن الحوادث السابقة.
-
تفعيل تدريجي لمحاور جديدة في السياسة الخارجية الجزائرية، نحو إفريقيا، روسيا، الصين، بلدان أمريكا اللاتينية وحتى تركيا.
-
نبرة إعلامية رسمية بدأت – وإن ببطء – تتحرر من التبجيل الأوتوماتيكي لفرنسا، وتسلك طريقا أكثر سيادية.
لكن كل هذه الخطوات تظل خجولة، ولا ترتقي إلى مستوى التحدي. فالتاريخ يعلّمنا أن الأنظمة لا تتغير بالإشارات الرمزية، بل بالمواقف الجذرية.
رابعاً: هل القطيعة حتمية؟
السؤال الجوهري الذي نطرحه هنا هو: هل يجب أن نقطع العلاقة مع فرنسا؟
الجواب ليس عاطفياً، بل استراتيجياً. نحن لا ندعو إلى القطيعة بمعناها العدائي، ولا إلى التصعيد المجاني. ولكننا ندعو إلى ما يمكن تسميته بـالقطيعة التنظيمية السيادية، أي:
-
تحويل العلاقات إلى علاقات تقنية لا عاطفية، كالعلاقات مع أي دولة أخرى لا تربطنا بها ذاكرة دامية.
-
سحب ملف الذاكرة من يد الإليزيه، واحتكاره كمجال سيادي لا يُتنازل فيه، يُعالج فقط وفق شروط الجزائر.
-
إعادة هيكلة التبعية اللغوية والثقافية، بوضع سياسة واقعية لفك الارتباط مع المنظومة التعليمية والثقافية الفرنسية.
-
تصفية تركة "أصدقاء فرنسا" داخل الجزائر، من شخصيات ولوبيات تدافع عن باريس أكثر مما تدافع عن الجزائر.
خامساً: نظرة إلى المستقبل — طريق الاستقلال التام
المرحلة المقبلة، الممتدة من 2025 إلى نهاية العقد، ستكون حاسمة في إعادة صياغة علاقات الجزائر الخارجية، وفرنسا لا يمكن أن تظل المحور الوحيد أو الأول. يجب على الجزائر أن تتصرّف كدولة كبيرة، واثقة، مستقلة، لا كـ"محمية ثقافية" لصناع القرار في باريس.
وهذا يتطلب:
-
إعلان نهاية عهد الحنين الاستعماري من طرف واحد: الجزائر.
-
بناء علاقات نفعية صارمة مع فرنسا، تقوم على مبدأ: ما هو مفيد لنا، نأخذه، وما هو مضاد لمصالحنا، نرده بأدب وقوة.
-
رفع سقف الشراكات البديلة، لا فقط كموازن لفرنسا، بل كخيار استراتيجي لتحرر حقيقي.
-
تحويل الذاكرة إلى مصدر قوة سيادية، لا مجرد ملف تفاوضي.
خاتمة: الجزائر لن تُبتلع
لقد استغرق استقلالنا السياسي 132 سنة من المقاومة، ولا يمكننا أن نضيع استقلالنا المعنوي والثقافي والدبلوماسي لأن رئيساً فرنسياً أجاد فن الابتسامة المسمومة.
الجزائر اليوم بحاجة إلى قطيعة... لا مع فرنسا فقط، بل مع كل من يقلل من شأن هذا الوطن العظيم.
✍️ بلقاسم مرباح
تعليقات
إرسال تعليق