تُظهر النزاعات الإقليمية، عند إخضاعها لميزان القانون الدولي، الحدود الدقيقة بين الخطاب السياسي والحقيقة القانونية. ويُعدّ ملف منجم غار جبيلات واحداً من أبرز هذه الأمثلة، حيث يلوّح المغرب بين الحين والآخر بادعاءات تُلمّح إلى «خرق» الجزائر لالتزامات ثنائية. غير أنّ التحليل القانوني الرصين يبيّن بوضوح أنّ المغرب لا يمتلك أي أساس قانوني يتيح له الاعتراض على الاستغلال السيادي الذي شرعت الجزائر في تنفيذه على أراضيها.
إن دراسة أحكام اتفاقية 15 جوان 1972، مقرونة بالمبادئ الراسخة في القانون الدولي، تقود إلى نتيجة حاسمة: الحقوق التي كان يمكن للمغرب أن يستفيد منها قد انقضت بفعل عدم تنفيذه لالتزاماته الجوهرية، ولا يوجد في القانون الدولي ما يسمح له بتقييد ممارسة الجزائر لسيادتها الدائمة على ثرواتها الطبيعية.
1. الإطار الاتفاقي: سيادة جزائرية راسخة وتعاون مشروط
تؤكد الاتفاقية الجزائرية–المغربية الموقّعة في 15 جوان 1972، وبشكل صريح منذ ديباجتها، أنّ منجم غار جبيلات يقع تحت السيادة الكاملة للجزائر. ويعيد الفصل الرابع تثبيت هذا المبدأ دون أي لبس: الجيب الجيولوجي المعني يوجد داخل الإقليم الوطني الجزائري، ومن ثم فإنّ حق استغلاله يعود حصراً للدولة الجزائرية.
إن التعاون المنصوص عليه في الاتفاقية لم يكن حقاً قائماً بذاته للمغرب، بل كان آلية تعاونية مشروطة بمدى احترام الطرفين لالتزاماتهما. وقد تمثل هذا التعاون في إنشاء شركة مشتركة (س.أ.م.)، وإنجاز منشآت أساسية، واعتماد إدارة ومردودية على أساس المناصفة.
بمعنى آخر: التعاون لم يكن امتيازاً سيادياً، بل التزاماً تعاقدياً مقيداً بتوازن دقيق في الأعباء والواجبات.
2. التزامات المغرب: أساس جوهري للتعاون
لكي تتحقق الشراكة كما نصت عليها الاتفاقية، كان على المغرب الالتزام بجملة من الواجبات الجوهرية، أبرزها:
- المشاركة مناصفةً في إنشاء شركة س.أ.م. (المادتان 1 و13)؛
- إنجاز منشآت حيوية على أراضيه، وفي مقدمتها ميناء أطلسي مخصص لتصدير الخام (المادتان 2 و11)؛
- ضمان مرور حرّ للخام والمعدات واللوازم عبر أراضيه (المادة 11)؛
- توفير نصف التمويلات اللازمة لإنجاز المشروع (المادة 7)؛
- المشاركة بالقدْر نفسه في التسيير (المادة 13).
هذه الالتزامات كانت ركيزة العقد ومفتاح نجاح أي تعاون اقتصادي بين البلدين.
3. عدم تنفيذ المغرب لالتزاماته: سقوط حقوقه الاتفاقية
من الثابت تاريخياً وقانونياً أنّ المغرب لم ينفّذ أيًّا من الالتزامات التي تعهّد بها:
- لم تُنشأ شركة س.أ.م. قط؛
- لم يُنجز أي ميناء أو خط حديدي أو منشأة على الجانب المغربي؛
- لم يُضمَن المرور الحر للخام ولا للمعدات؛
- لم تُقدَّم أي مساهمة مالية أو فنية.
وبالاستناد إلى قواعد القانون الدولي للمعاهدات، تسري القاعدة المعروفة بـ “استثناء عدم التنفيذ” (exceptio non adimpleti contractus) التي تقرّر بأنّ الطرف الذي لا ينفّذ التزاماته الأساسية يفقد حقه في المطالبة بتنفيذ الطرف الآخر لالتزاماته المقابلة.
بذلك، يكون المغرب قد فوّت بنفسه، ومن خلال عدم الوفاء بالتزاماته، أي حق محتمل في التمسك بمزايا الاتفاقية.
4. غياب أي وسيلة إجرائية لإلزام الجزائر
لا تمنح الاتفاقية للمغرب أي سلطة قسرية لإجبار الجزائر على الدخول مجدداً في تعاون عطّله هو نفسه. كما أنّ آليات تسوية النزاعات المنصوص عليها في المادة 17 لا تُفعَّل إلا في حالتين:
- عند نشوب خلاف حول تسيير الشركة المشتركة؛
- أو عند اختلاف حول تطبيق أحكام الاتفاقية.
وبما أنّ الشركة لم تُنشأ أصلاً، وأنّ الاتفاقية باتت من الناحية العملية خالية من أي موضوع قابل للتفعيل، فإنّ هذه الآليات تصبح بلا جدوى ولا يمكن للمغرب اللجوء إليها بأي شكل.
5. السيادة الإقليمية للجزائر: مرتكز قانوني لا يقبل الطعن
استناداً إلى قواعد القانون الدولي العام، ولا سيما:
- ميثاق الأمم المتحدة،
- قرار الجمعية العامة 1803 المتعلق بالسيادة الدائمة على الموارد الطبيعية،
- المبادئ العرفية الراسخة،
تمتلك الجزائر الحقّ المطلق والحصري في التصرف في مواردها الطبيعية الواقعة داخل ترابها الوطني، بما في ذلك منجم غار جبيلات.
ولا يوجد في القانون الدولي ما يمنح المغرب، أو غيره، أي إمكانية للاعتراض على هذا الحق السيادي.
6. خاتمة: اعتراض قانوني مستحيل وادعاء بلا سند
إن تجميع العناصر القانونية والاتفاقية يقود إلى خلاصة واضحة:
- المغرب لم ينفّذ التزاماته التعاقدية، وبالتالي سقطت حقوقه الاتفاقية.
- الاتفاقية لا تمنحه أي وسيلة لإجبار الجزائر على التعاون.
- السيادة الجزائرية على منجم غار جبيلات ثابتة ومحمية بنصوص دولية وموثقة باتفاق ثنائي.
وعليه، فإنّ أي محاولة مغربية للطعن في الاستغلال الجزائري للمنجم لا يمكن أن تكون سوى خطاباً سياسياً بلا قيمة قانونية، ولا تستند إلى أي أساس في القانون الدولي أو الاتفاقات الثنائية.
✍️ بلقاسم مرباح
وطني جزائري، حرّ في قلمه كما في مواقفه.
أظن توقيت الاتفاقية هو المفتاح، اتفاق مبدئيا وظاهريا، لكنه في الحقيقة وضع يد على المنجم في انتظار المطالبة بحصة فيه أمام الشركات العالمية بعد تنفيذ مخططات معروفة لكونها أصبحت في الماضي.
ردحذف