منذ عدّة أشهر، تمرّ العلاقات بين الجزائر وباريس بمنطقة اضطرابات غير مسبوقة منذ استقلال الجزائر. وبينما يتساءل المراقبون الدوليون عن أسباب هذا التدهور، تؤكد مصادر دبلوماسية جزائرية متمركزة في باريس أن هذه الأزمة لم تكن متوقعة فحسب، بل كانت مخططة ومحللة وموثّقة منذ سنوات. ووفقًا لهؤلاء الدبلوماسيين، فإن جذور هذا الانكسار عميقة وتعود إلى استراتيجية منهجية نفذتها دوائر نافذة داخل جهاز الدولة الفرنسية نفسه.
تحذيرات تم تجاهلها
تشير تقارير دبلوماسية سرية، تم تسريب محتواها مؤخرًا بحسب صحيفتي الخبر والجزائر patriotique، إلى سلسلة من التحذيرات أرسلتها السفارة الجزائرية في باريس إلى السلطات العليا في الجزائر منذ أكثر من عقد. وتندد هذه الوثائق بسلسلة من المناورات التي تنفذها ما يصفها الدبلوماسيون بـ"الدوائر المعادية" داخل المؤسسات الفرنسية.
وتفيد المصادر أن هذه الدوائر عملت على عرقلة أي محاولة للتقارب أو التطبيع بين الجزائر وفرنسا، من خلال نشاط خفي داخل أجهزة الاستخبارات، خصوصًا DGSE، وبعض الوزارات السيادية مثل وزارة الداخلية، بالإضافة إلى ترويج خطاب معادٍ في وسائل الإعلام السائدة. ويعتبرها الدبلوماسيون جزءًا من استراتيجية استنزاف طويلة الأمد، أسفرت تدريجيًا عن تباعد البلدين.
الدور الغامض لبعض المؤسسات
في صلب الانتقادات التي يوجهها هؤلاء الدبلوماسيون تكمن ريبة عميقة تجاه بعض المؤسسات الدولية المتمركزة في فرنسا. يتم تسليط الضوء على اليونسكو، التي يقع مقرها في باريس، بسبب تركيبتها التي تضم، وفقًا لموظف جزائري سابق، حوالي 90% من الكوادر من الجنسية الفرنسية. وتديرها حاليًا أودري أزولاي، ابنة أندريه أزولاي، المستشار الملكي المغربي النافذ. ويرى البعض في ذلك انحيازًا واضحًا لصالح المغرب، المنافس الاستراتيجي للجزائر في قضايا إقليمية متعددة، أبرزها قضية الصحراء الغربية.
كما تمّت الإشارة إلى معهد العالم العربي الذي يترأسه جاك لانغ منذ سنوات، حيث تُتّهم هذه المؤسسة بتبنّي ميول واضحة تجاه الرباط، على حساب تمثيل متوازن للعالم العربي، مما يساهم في تهميش الجزائر داخل الدوائر الثقافية الباريسية.
أصوات فرنسية خنقتها المنظومة
رغم تصاعد التوتر، حاولت بعض الشخصيات الفرنسية الدفاع عن خطاب هادئ وموضوعي في العلاقات الثنائية. فمثلًا، دعا دومينيك دو فيلبان، رئيس الوزراء الأسبق، إلى حوار قائم على الاحترام المتبادل. كما أوصى المؤرخ بنيامين ستورا، في تقريره لعام 2021 حول ذاكرة الاستعمار، بالاعتراف الصريح بالماضي الاستعماري. كما أن الصحفي جان ميشال أباثي، المعروف بمواقفه المتوازنة، وميشال بيساك، رئيس غرفة التجارة والصناعة الجزائرية-الفرنسية، نبّها إلى خطورة التدهور في العلاقات الاقتصادية.
إلا أن هذه الأصوات غالبًا ما يتم تهميشها أو مهاجمتها في وسائل الإعلام أو تجاهلها من قبل صناع القرار، مما يعزز القناعة في الجزائر بأن السياسة الفرنسية تجاه الجزائر خاضعة لنظام نفوذ يرفض أي تطور إيجابي.
انكسار تتبناه الجزائر علنًا
في مواجهة هذه العداوة المتصوَّرة، يبدو أن الجزائر اتخذت خيارًا استراتيجيًا قوامه الصبر والتوجه نحو تنويع الشراكات. فقد أعادت السلطات الجزائرية تدريجيًا صياغة أولوياتها الجيوسياسية، معزّزة تعاونها مع الصين وتركيا وروسيا وإيطاليا، في حين تراجعت فرنسا إلى مرتبة الشريك الثانوي، سواء على المستوى الاقتصادي أو الدبلوماسي.
وبحسب الخبر المسائي الجزائري، فإن هذه السياسة بدأت منذ عام 2015، وتسارعت عقب التصريحات التي اعتبرتها الجزائر مهينة من الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون عام 2021 حول "الريع التذكاري" للنظام الجزائري. وترى الجزائر أن القطيعة الحالية ليست حادثة دبلوماسية عابرة، بل نتيجة حتمية لمسار طويل من التباعد المخطط، تتحمل فيه فرنسا القسط الأكبر من المسؤولية.
نحو نقطة اللاعودة؟ تحليل استشرافي للعلاقات الجزائرية-الفرنسية
الواقع أن تدهور العلاقات الجزائرية-الفرنسية لم يكن محض صدفة، بل نتاج ديناميكية بطيئة تقوم على الشكوك المتبادلة وسوء الفهم وأفعال عدائية، سواء حقيقية أو مفترضة. وتظهر تقارير الدبلوماسيين الجزائريين أن الجزائر لم تكن يومًا مخدوعة بنوايا بعض دوائر الدولة الفرنسية. ويبقى السؤال: هل يمكن لتصرف عقلاني مفاجئ أن يعيد فتح قنوات الحوار، أم أن القطيعة أصبحت نهائية؟
مع تفاقم التوتر، يبدو أن مستقبل العلاقات الجزائرية-الفرنسية مرشح للتأزم. فهناك عدة عوامل ثقيلة توحي باتجاه واضح نحو الانفصال: من جهة، تصاعد خطاب ومواقف فرنسية معادية للجزائر؛ ومن جهة أخرى، تصاعد قومية جزائرية تتخذ من فكّ الارتباط الثقافي والاقتصادي مع فرنسا نهجًا ثابتًا.
منعطف هوياتي في فرنسا
منذ صعود القضايا الهوياتية في النقاش العام الفرنسي — المتغذّي بخطابات حول "الهجرة غير المنضبطة"، "الانفصالية"، و"التوبة الاستعمارية" — أصبحت الجزائر أداة في المعارك السياسية الداخلية. وتُنبئ الانتخابات الرئاسية المرتقبة عام 2027 بمزيد من التصعيد، حيث يتنافس مرشحو اليمين واليمين المتطرف على طرح مواقف متشددة تجاه الذاكرة الاستعمارية والهجرة والعلاقات مع الجزائر.
وغالبًا ما يتم تبرير هذا التوتر في باريس برغبة معلنة في "إقامة علاقة ندّية". غير أن الجزائر ترى فيه إهانة دائمة لسيادتها، مما يثير نفورًا شعبيًا متزايدًا من أي شراكة مع فرنسا، التي تُتهم بالاستمرار في النظر إليها من منظور استعلائي أو حتى استعماري جديد.
القومية الجزائرية: ردّ ممنهج واستراتيجي
أمام هذه العداوة المتصوَّرة، لم تتخذ الجزائر موقفًا دفاعيًا، بل هجوميًا مدروسًا. فالقومية المتصاعدة في البلاد لا تقوم فقط على العاطفة أو ردة الفعل، بل على قرارات سياسية ملموسة.
-
اقتصاديًا: تعزز الجزائر تعاونها مع الصين، إيطاليا، تركيا، وأفريقيا جنوب الصحراء. وتراجع حضور الشركات الفرنسية مثل TotalEnergies وRenault وSanofi لصالح منافسين صينيين أو أتراك، دليل على إعادة تموضع استراتيجي مدروس.
-
ثقافيًا: تظهر مؤشرات واضحة، مثل إدخال اللغة الإنجليزية في مراحل التعليم المبكرة، وترسيخ الأمازيغية كلغة وطنية، وتشجيع الإنتاج الثقافي والإعلامي الوطني، والاعتزاز بالتراث المحلي. لقد انتهى زمن كانت فيه باريس تمثل الأفق الثقافي. الجزائر اليوم تنظر إلى اسطنبول، الدوحة، بكين، وموسكو.
-
دبلوماسيًا: تعزز الجزائر حضورها داخل مجموعة "البريكس"، التي تأمل في الانضمام إلى نواتها الصلبة، وتكثّف نشاطها في القارة الأفريقية، ضمن توجه دبلوماسي جديد يهدف لكسر الهيمنة الأوروبية، وخصوصًا الفرنسية، على الفضاء المتوسطي.
سيناريوهات مستقبلية: قطيعة دائمة أم مصالحة مشروطة؟
على المدى القصير والمتوسط، يمكن تصور ثلاثة سيناريوهات رئيسية:
-
السيناريو الأول: القطيعة الدائمةإذا استمرت المواقف المتشددة من الطرفين، قد تدخل العلاقات مرحلة تجميد طويلة الأمد، شبيهة بما يحدث بين الجزائر والمغرب. سيتقلص التعاون الاقتصادي، وسينقطع الحوار الثقافي والأكاديمي. وسيتجه الشباب الجزائري بالكامل نحو نماذج بديلة بعيدًا عن فرنسا.
-
السيناريو الثاني: المصالحة البراغماتيةتحت ضغط دوائر الأعمال (خصوصًا الشركات الفرنسية التي تخشى فقدان السوق الجزائرية)، قد تظهر أصوات داخل الطبقة السياسية الفرنسية تطالب بالتهدئة. سيتطلب هذا السيناريو مراجعة جذرية للخطاب الفرنسي تجاه الجزائر، مبنيًا على الاحترام المتبادل وطيّ صفحة الماضي. ورغم أنه سيناريو مرغوب فيه، إلا أنه يبدو مستبعدًا في الأمد القريب بسبب المناخ السياسي الفرنسي.
-
السيناريو الثالث: التنافس البارددون قطيعة رسمية، قد تتعايش الجزائر وفرنسا في ظل علاقة باردة تتسم بتعاون شكلي وتنافس ضمني في ملفات إقليمية مثل الساحل، ليبيا، والطاقة. وسيمتد هذا التنافس إلى دوائر الجالية، حيث تدور حرب ناعمة حول السرديات والرموز.
خاتمة: صفحة تطوى
تسير الجزائر وفرنسا، أكثر من أي وقت مضى، في اتجاهين متعاكسين. بعيدًا عن أسطورة "العلاقة الخاصة"، تفرض الوقائع قراءة أكثر واقعية: المصالح والرؤى والأولويات الاستراتيجية باتت مختلفة جدًا. ولإعادة كتابة فصل جديد في العلاقات، سيكون من الضروري أكثر من مجرد تعديل دبلوماسي سطحي؛ بل لا بد من تغيير جذري في النهج والذهنية.
بقلم: بلقاسم مرباح
المصادر:
-
الخبر – "الدبلوماسيون الجزائريون في باريس كانوا قد حذروا"، مارس 2025
-
الجزائر Patriotique – "وثائق دبلوماسية سرية"، أبريل 2025
-
الخبر المسائي – "حين تدير الجزائر ظهرها لباريس"، فبراير 2025
-
لوموند – "ستورا، دو فيلبان، أباثي: الأصوات التي تم تهميشها"، يناير 2025
-
إذاعة فرنسا الدولية RFI – "العلاقات الجزائرية-الفرنسية على المحك"، ديسمبر 2024
تعليقات
إرسال تعليق