تبني قراءة يوسف هندي للإسلام السياسي على فرضية مؤسِّسة مفادها أنّ الإسلام، منذ بداياته، يحمل مشروعًا سياسيًا مكتمل البنية يسعى إلى إنتاج نظام تاريخي معيّن، وأنّ الحركات الإسلامية المعاصرة ليست إلا امتدادًا “طبيعيًا” لذلك النموذج الأول. ورغم ما يبدو من تماسكٍ ظاهري، تعاني الأطروحة من ثلاث علل منهجية كبرى: الجوهرانية التي تختزل الإسلام في ماهية ثابتة، وطمس الفوارق التاريخية بين التجارب الإسلامية، والأنكرونيزم الناتج عن إسقاط مفاهيم الدولة الحديثة على سياقات ما قبل الحداثة.
يهدف هذا المقال إلى تفنيد هذه الأطروحة عبر إبراز هشاشتها النظرية وتناقضاتها المنهجية، وبيان أنّ الإسلام السياسي المعاصر ظاهرة حداثية ابنة القرن العشرين، لا امتدادًا تلقائيًا لنموذجٍ تأسيسي مفترض.
1) الجوهرانية: فرضية بلا سندٍ تاريخي
تفترض الأطروحة أنّ الإسلام كيانٌ عقائدي–سياسي واحد وثابت عبر التاريخ، وأنّ نصوصه التأسيسية أفرزت مباشرةً نموذجًا سياسيًا مكتملًا ظل يُعاد إنتاجه بصيغٍ متنوعة. غير أن الوقائع تكذّب هذا التوحيد التعسّفي:
- تعدّد المذاهب الفقهية واختلاف مناهجها في السياسة الشرعية.
- التباينات العقدية–المؤسسية بين السنّة والشيعة والخوارج.
- تحوّلات السلطة من الأموية إلى العباسية إلى العثمانية، وتبدّل أنماط الحكم وآلياته.
- ثقل العرف والعصبية والقبيلة في بناء الشرعية وترتيب السلطة.
- طول فترات “الخلافة الرمزية” حيث آل النفوذ الفعلي للسلاطين والأُمراء.
تُظهر دراسات التاريخ والأنثروبولوجيا السياسية (Lapidus، Crone، Arkoun) أنّ الإسلام لم ينتج نموذجًا سياسيًا واحدًا بل منظومات حكم متعدّدة ومتغيرة، وهو ما ينقض الادعاء بوجود “جوهر سياسي ثابت” يتعالى على الزمان والمكان.
2) الخلط بين المعياري والوصفي: عطب في المنهج
تدمج الأطروحة بين ما ينبغي وفق النصوص وما وقع في التاريخ، فتحوّل المعايير الأخلاقية إلى وقائع سياسية، ثم تقرأ التاريخ بوصفه تطبيقًا حرفيًا لها.
3) إسقاط مفاهيم الحداثة على ما قبل الدولة الحديثة
تتعامل الأطروحة مع الخلافة الراشدة والأموية والعباسية وكأنها مشاريع أيديولوجية ببرامج سياسية على غرار الأحزاب الحديثة. وهذا أنكرونيزم صريح:
- غياب التنظيم الأيديولوجي الحديث وآليات “الحزب–الحركة”.
- هيمنة العصبيات والشرعية العسكرية والقرابية.
- عدم وجود “برنامج” سياسي مكتوب بالمعنى المعاصر.
- تَشكُّل السلطة من توازنات قوى أكثر من تَشكّلها من “مشروع” ديني مُسبق.
إنّ مفهوم “الإسلام السياسي” نفسه حديث النشأة؛ وإسقاطه على عوالم ما قبل الدولة القومية يفقدنا أدوات الفهم الملائمة لتلك السياقات.
4) الإسلام السياسي المعاصر: ظاهرة حداثية لا امتدادًا تلقائيًا
على خلاف الرواية التمديدية، تُظهر الدراسات الحديثة أنّ الإسلام السياسي ابن القرن العشرين، تشكّل بفعل تضافر عوامل تاريخية–جيوسياسية:
- الاستعمار، وسقوط السلطنة العثمانية، وصدمة الفراغ الإمبراطوري.
- نشوء الدولة الوطنية ومشكل بناء الشرعية والاندماج.
- أزمات الهوية وتوسّع التعليم الجماهيري والتمدّن السريع.
- فشل صيغ الحكم العسكرية–القومية في التنمية والتمثيل.
- تنافس قوى إقليمية (السعودية–إيران–تركيا–قطر) وتدويل الصراعات.
- تبنّي أدوات تنظيم حديثة: الحزب، الإعلام الجماهيري، التعبئة الأيديولوجية الشاملة.
بهذا المعنى، لا يمثّل الإسلام السياسي “استمرارًا طبيعيًا” لتراثٍ سياسي ثابت، بل هو إعادة تشكيل سياسية للهوية الإسلامية في عصر الدولة القومية والحداثة التقنية.
5) سردية أيديولوجية لا تحليل تاريخي
يقدّم الطرح سردية محكمة البناء ظاهريًا لكنها تقوم على:
- انتقائية نصّية تخدم الخلاصة المسبقة.
- تغافلٍ عن التناقضات البنيوية في التجارب التاريخية.
- قراءة الماضي بعيون الحاضر ومشكلاته.
- تيلولوجيا تفسّر البدايات بنتائج لاحقة، فتجعل التاريخ مسارًا مقصودًا سلفًا.
إنها، إذن، مرافعة أيديولوجية أكثر منها تحليلًا تاريخيًا–سوسيولوجيًا.
خاتمة
تعاني أطروحة يوسف هندي في تعريف الإسلام السياسي من اختزالٍ ماهوي يُفرغ التاريخ من تعدديته وتعقيده، ومن إسقاطٍ لمفاهيم الدولة الحديثة على سياقاتٍ لا تنتمي إليها، ومن خلطٍ بين المعياري والوصفي يبدّل منهج البحث إلى بيانٍ تقريري. ويبرهن البحث التاريخي أنّ الإسلام السياسي نتاجٌ حداثي تشكّل تحت ضغط الاستعمار، وبنية الدولة الوطنية، وتحولات الاجتماع السياسي والتنافسات الجيوسياسية.
وفهم الظاهرة يقتضي تفكيك السرديات التبسيطية والعودة إلى تحليل متعدّد العوامل يستعين بأدوات التاريخ الاجتماعي، وسوسيولوجيا الحركات، وتاريخ الأفكار، كي نقرأ الإسلام السياسي المعاصر بوصفه تكوّنًا حداثيًا لا ظلًا لجوهرٍ ماضويّ مفترض.
✍️ بلقاسم مرباح
وطني جزائري، حرّ في قلمه كما في مواقفه.
تعليقات
إرسال تعليق