وصلت، مساء الخميس، الأمينة العامة لوزارة أوروبا والشؤون الخارجية الفرنسية، آن ماري ديكوست، إلى الجزائر على رأس وفد رفيع المستوى للقاء نظيرها الجزائري لوناس مقرمان؛ وهي أول زيارة رسمية لمسؤول فرنسي منذ تجدد التوترات الربيع الماضي، ما يعكس رغبةً فرنسيةً في اختبار إمكانات استئناف التعاون في ملفات الهجرة والأمن والاقتصاد، وإعادة الحيوية للعمل القنصلي المتعطل منذ أشهر.
تؤكد هذه الزيارة — وفق ما تسرب من دوائر باريس والجزائر — أن جدول الأعمال يشمل معالجة ملفات الموظفين القنصليين المعلقة اعتماداتهم، وإعداد رزنامة للمتابعة تشمل عودة السفراء والزيارات التقنية المرتقبة، وفي مقدمتها زيارة وزير الداخلية الفرنسي لوران نونيز؛ وهو ما ينسجم مع توجه فرنسي جديد بعد تعيين نونيز على رأس الداخلية في 12 أكتوبر/تشرين الأول 2025.
سياق الأزمة: من “إعلان الجزائر” إلى التراشق بطرد الدبلوماسيين
رغم الزخم الذي خلقه إعلان الجزائر (أغسطس/آب 2022) لإعادة صياغة الشراكة، عاد المسار إلى مناطق اضطراب متكرّرة: حادثة أميرة بورعاوي مطلع 2023؛ ثم انعطاف باريس صيف 2024 لصالح خطة الحكم الذاتي المغربية في الصحراء الغربية؛ قبل أن تنفجر أزمة 2025 باعتقالات وإجراءات طردٍ متبادلة غير مسبوقة منذ 1962.
في أبريل/نيسان 2025، طالبت الجزائر 12 موظفًا فرنسيًّا بمغادرة البلاد خلال 48 ساعة، لترد باريس بالمثل وتستدعي سفيرها، بعد توجيه الاتهام لثلاثة جزائريين — بينهم موظف قنصلي — على خلفية قضية أمير بوقرص (أمير DZ)؛ وهو ما عُدّ في الجزائر انتهاكًا للأعراف وللحماية القنصلية. هكذا انزلقت العلاقات سريعًا من بوادر التهدئة إلى قطيعة عملية في قنوات الاتصال.
“ملف صنصال”: إشارة إنفراجٍ إنسانية لا تسويةً سياسية
جاءت زيارة ديكوست بعد أيام من العفو الإنساني عن الكاتب بوعلام صنصال ونقله للعلاج في برلين، ثم استقباله بهدوءٍ في الإليزيه بعيدًا عن الضجيج الإعلامي المعتاد؛ وهي خطوة قوبلت في باريس باعتبارها مؤشرًا إيجابيًّا على إمكان إعادة فتح القنوات، فيما تُصرّ الجزائر على فصل القضية عن مسارات العلاقات الثنائية.
تؤكد بيانات الرئاسة الفرنسية ووكالات دولية أن العفو جاء استجابةً لطلبٍ ألماني مباشر وأن استقبال صنصال في 18 نوفمبر/تشرين الثاني جرى بلا بهرجة، مع إشارات فرنسية إلى متابعة ملف الصحفي كريستوف غليز. دلاليًّا، تبدو هذه الحركة “جسرًا إنسانيًّا” أكثر منها صفقة سياسية، لكنها تُخفّض درجة الاحتقان وتمنح ديبلوماسية باريس هامشًا للتحرك.
المحرّكات الجيوسياسية: أمنُ المتوسط والهجرة والذاكرة والطاقة
-
الهجرة والأمن: تراهن باريس على إعادة هندسة التعاون في إعادة القبول وتسليم الوثائق، وربط ذلك بتنسيق أوسع في مكافحة الجريمة المنظّمة والإرهاب؛ ما يفسّر إدراج زيارة وزير الداخلية ضمن المسار “التقني-الأمني” لتحريك الملفات العالقة.
-
الذاكرة والسيادة الرمزية: يظل ملف الذاكرة الاستعمارية عاملًا مُفجّرًا للرأي العام في البلدين؛ وقد برز مجددًا مع السجال حول خرائط الحدود وملف الصحراء الغربية، حيث شكّل تموضع باريس صيف 2024 نقطة انعطافٍ حادةٍ في نظر الجزائر.
-
الطاقة والاقتصاد: على الرغم من غياب تفاصيل رسمية، فإنّ إعادة تفعيل القنوات القنصلية وتمكين تنقّل المدراء والعمّال هي شرطٌ لازم لعودة المشاريع والاستثمارات؛ إذ أثبتت الأشهر الماضية أن تعثّر التأشيرات والاعتمادات يُعيق بشكل مباشر حركة الأعمال.
باريس تُعدّل المقاربة: من “التصعيد غير المُجدِي” إلى “حوارٍ مُطالِب”
إسناد حقيبة الداخلية إلى لوران نونيز — القادم من قلب المنظومة الأمنية والاستخبارية — يُظهر رغبة في مقاربة عملية لملفات الهجرة والأمن مع الجزائر، مع خطابٍ يُجنّب المكابرة ويعترف بأن نهج العقوبات القنصلية لم يُنتج النتائج المرجوّة. لذلك تُراهن باريس على “حوارٍ مُطالِب” يربط التعاون الهجروي بضمانات أمنية وتبادلية واضحة.
التسريبات الإعلامية في باريس تفيد بأن نونيز يدرس زيارة قريبة للجزائر لإطلاق مسارٍ جديد في الإبعاد وإصدار laissez-passer، وهو ما ينسجم مع أجندة زيارة ديكوست التي تُعيد وصل الأسلاك القنصلية والإدارية قبل الانتقال إلى الملفات الرمزية الثقيلة.
الجزائر تفصل بين المسارات: مبدئيةٌ في السياسة وتكتيكٌ في الإجراءات
في المقابل، تُصرّ الجزائر — على مستوى الخطاب الرسمي — على أن العلاقات الثنائية أكبر من الأشخاص والملفات الآنية، وأن أيّ استئنافٍ للتعاون يتطلّب احترامًا متبادلًا للمساطر القضائية والقنصلية، ووقفَ ما تعتبره “تسييسًا” لملفات الإعلام والمعارضين. وقد بدا ذلك واضحًا في ردّها على توقيف الموظف القنصلي ضمن قضية أمير بوقرص، وفي تمسكها بمبدأ المعاملة بالمثل في الطرد والاعتمادات.
هذا التشدد المؤسسي لا ينفي وجود هامشٍ براغماتيّ؛ فقد سمحت الجزائر بالعفو الإنساني عن صنصال، لكنها تُحمّل باريس مسؤولية انحراف مسار العلاقات منذ صيف 2024، وتعتبر أن أيّ تطبيعٍ يجب أن يبدأ من احترام السيادة ومراجعة المقاربة القنصلية التي تصفها أحيانًا بـ“الابتزاز التأشيري”.
قراءة في موازين القوى: أين يتقاطع التكتيك والرمزية؟
- رمزيةٌ تُحرّك التكتيك: استقبال الإليزيه لصنصال دون مظلّةٍ إعلاميةٍ ضخمةٍ يُقدّم رسالة تهدئة للجزائر وللرأي العام الفرنسي في آن، ويتيح لباريس التمايز بين الدفاع عن الحريات واحترام مسارات التفاوض الحسّاسة.
- تكتيكٌ يُختبر على الأرض: نجاح زيارة ديكوست يُقاس بمدى إعادة اعتماد الموظفين القنصليين، وجدولة عودة السفيرين، وتحييد التصعيد المتبادل؛ وهي مؤشرات أوليّة على جعل “القنصلي” نافذةً لإطفاء “السياسي”.
سيناريوهات الأسابيع المقبلة
-
تهدئةٌ مُدارة: إطلاق مسارٍ قنصلي-أمنيٍّ محدود، يتضمن إعادة الاعتمادات وجدولة الزيارات التقنية (ومنها زيارة نونيز)، مع إبقاء الملفات الرمزية — الصحراء الغربية والذاكرة والقضايا القضائية — خارج دائرة الإعلام إلى حين.
-
انتكاسةٌ مفاجئة: أي خرقٍ في الملف القضائي (قضية أمير DZ أو توقيفات جديدة) قد يعيد لعبة الطرد المتبادل ويُجمّد أثر زيارة ديكوست سريعًا.
-
اختراقٌ إنسانيٌّ موسّع: البناء على العفو عن صنصال لمُعالجة ملفات أفراد آخرين (مثل غليز)، بما يخلق رصيدَ ثقةٍ يسمح بفتح ملفات الهجرة والذاكرة تدريجيًّا.
خاتمة: دبلوماسية “الممرّات الجانبية” قبل الملفات الكبرى
تبدو زيارة آن ماري ديكوست اختبارًا لفاعلية الممرّات الجانبية (القنصلي، الأمني، الإداري) في خفض حرارة ملفّات كبرى تراكمت على مدى عامين؛ فحين يتقدّم التقنيّ الملموس على الرمزيّ المُستفزّ، تتاح للرئيسين ماكرون وتبون نافذةٌ لإعادة البناء الهادئ بعيدًا عن أضواء التصعيد. نجاح هذا المسار سيتوقف على قدرة الطرفين على إدارة الاختلاف في الصحراء الغربية والذاكرة، دون التضحية بتعاونٍ عمليٍّ في الهجرة والأمن ومصالح الأعمال؛ وهو ما تحاول هذه الزيارة وضع لبناته الأولى.
✍️ بلقاسم مرباح
وطني جزائري، حرّ في قلمه كما في مواقفه.
تعليقات
إرسال تعليق