هسبريس، في مقالها الأخير، أعادت إنتاج سردية مألوفة في الدعاية الرسمية المغربية، تقوم على ثلاث ركائز أساسية: أن عودة جبهة البوليساريو إلى الكفاح المسلح سنة 2020 كانت «خطأً استراتيجياً»، وأن الجبهة باتت «محاصرة داخل التراب الجزائري»، وأن المغرب يراكم «انتصارات ميدانية ودبلوماسية» متتالية.
غير أنّ هذه السردية، رغم تكرارها في الإعلام، تعاني من ثغرة منطقية جوهرية لم يقدّم المقال جواباً عنها:
لماذا يطالب المغرب، بإلحاح شديد، بعودة وقف إطلاق النار منذ الأيام الأولى لاستئناف القتال؟
فلو كانت عمليات البوليساريو بلا أثر، ولو كانت «فاشلة» كما تزعم هسبريس، لكان المغرب أول من يرفض أي تهدئة، ولواصل الحرب حتى «الحسم». لكن الواقع جاء معاكساً تماماً:
- المغرب ناشد الأمم المتحدة في 2020 و2021 و2022 للعودة الفورية إلى وقف إطلاق النار.
- المغرب قدّم شكاوى رسمية بشأن «التهديدات اليومية» و«الهجمات المستمرة» شرق الجدار.
- المغرب تجنّب حتى اليوم الدخول في مواجهة ميدانية مباشرة مع وحدات جيش البوليساريو.
هذه المعطيات وحدها تكشف أن المغرب ليس في وضع يسمح له بتحمّل حرب استنزاف طويلة، وأن شعار «التفوق العسكري المطلق» لا ينسجم مع الحقائق العملياتية.
1. حرب الاستنزاف: كيف تُنهك البوليساريو الجدار المغربي؟
البوليساريو، التي لا تسعى إلى احتلال أراضٍ ولا تعتمد تكتيكات الجيوش النظامية، اختارت منذ 2020 استراتيجية الاستنزاف ضد مواقع الجيش المغربي خلف الجدار الرملي:
- قصف شبه يومي لمراكز الرصد.
- تعطيل الحركة الجوية والبرية في بعض المناطق.
- فرض ضغط دائم على الخطوط الخلفية.
- نقل المعركة إلى فضاءات لا يستطيع المغرب السيطرة عليها إلا بكلفة باهظة.
هذه العمليات لا تهدف إلى نصر سريع، بل إلى إنهاك اقتصادي وبشري، وهو ما يفسّر حالة القلق التي أظهرتها الرباط منذ الأسابيع الأولى للمواجهات.
فالجدار، الممتد على 2700 كلم، يستهلك يومياً ملايين الدراهم في الصيانة والمراقبة والتحصينات والوقود والمعدات وتعويض الخسائر. استمرار الحرب لا يخدم المغرب، ولهذا تحديداً:
المغرب يحتاج وقف إطلاق النار أكثر مما تحتاجه البوليساريو.
2. خسائر المغرب شرق الجدار: من يكذب؟
رغم التعتيم الإعلامي الكامل الذي تفرضه الرباط، فإن:
- صور الأقمار الصناعية،
- شهادات عسكريين مغاربة سابقين،
- تسجيلات في شبكات مغلقة،
- ووثائق مسرّبة من داخل المغرب،
كلها تؤكد وقوع خسائر متكررة في المواقع العسكرية المغربية.
كما أن المغرب لم يجرؤ منذ 2020 على دعوة الصحافة الأجنبية لزيارة «المناطق المحررة» شرق الجدار، لأن الرواية الرسمية لن تصمد أمام الحقيقة الميدانية.
ولو كانت البوليساريو منهارة كما تقول هسبريس، لكان المغرب أول من يستعرض انتصاراته أمام الكاميرات، ويفتح الميدان للصحافيين، ويعقد مؤتمرات عسكرية في قلب «الأراضي المحررة». لكن شيئاً من هذا لم يحدث… وهذا وحده كافٍ لتفنيد الدعاية الرسمية.
3. منطق السياسة الدولية: من يطالب بالسلام عادة؟
في قواعد النزاعات، الطرف الذي يطالب بالتهدئة عادة هو:
- الطرف المُنهك،
- أو الطرف الذي يخشى الانهيار الاقتصادي،
- أو الطرف الذي لا يستطيع تحمل حرب طويلة.
ومن الذي طالب بوقف إطلاق النار سنة 2020؟ المغرب.
ومن الذي حاول إقناع الأمم المتحدة بضرورة «العودة للحل السياسي»؟ المغرب.
ومن الذي توسّل وساطة أمريكية وإسبانية لإعادة الوضع إلى ما قبل 13 نوفمبر 2020؟ المغرب.
هذه المعطيات تكشف أن خطاب «التفوق الساحق» ليس سوى بروباغندا للاستهلاك الداخلي.
4. على المستوى الدبلوماسي: الانهيار الحقيقي ليس في تندوف
يدّعي المقال أن البوليساريو «انهارت دبلوماسياً»، وهي مغالطة مكررة. الواقع يقول:
- الاتحاد الإفريقي لا يزال يعتبر الجمهورية الصحراوية دولة عضوًا كاملاً.
- محكمة العدل الأوروبية كررت أحكامها ضد اتفاقيات المغرب.
- أي دولة أوروبية لم تعترف بـ«السيادة المغربية».
- الولايات المتحدة نفسها، بعد اعتراف ترامب، تراجعت عملياً عن استخدام مصطلح «السيادة».
- دول عديدة سحبت أو جمّدت فتح قنصليات في الصحراء.
أما المكاسب التي يروّج لها الإعلام المغربي فهي انتقائية، ظرفية، ودون أثر قانوني.
5. الحرب التي يخشاها المغرب أكثر من أي طرف آخر
حتى محللو الرباط يدركون أن المغرب:
- لا يملك عمقاً استراتيجياً في الجبهة،
- يعتمد على جدار دفاعي لا على جيش مناورة،
- يخشى فتح أكثر من جبهة في آن واحد،
- غير قادر اقتصادياً على تمويل حرب طويلة،
- يخشى هشاشة جبهته الداخلية،
- ويعتمد على دعم خارجي هش ومشروط.
بينما البوليساريو:
- تتحرك في فضاء صحراوي مفتوح،
- لا تحتاج للاحتفاظ بمواقع ثابتة،
- تعتمد حرب عصابات أثبتت جدواها تاريخياً،
- وتدرك أن عامل الزمن يعمل لصالحها.
لهذا السبب وحده، تريد الرباط وقف إطلاق النار بأي ثمن.
خلاصة
مقال هسبريس قائم على دعاية سياسية أكثر منه تحليلاً موضوعياً. والسؤال البسيط الذي يتجنّب المقال الإجابة عنه هو:
إذا كانت البوليساريو في «أضعف حالاتها»، فلماذا يتوسل المغرب الأمم المتحدة لإعادة وقف إطلاق النار؟ ولماذا يرفض بشدة الاستمرار في الوضع العسكري الجديد؟ ومن هو الطرف الذي يمتلك القدرة على المواجهة الطويلة؟
الإجابة واضحة:
الرواية المغربية لا تصمد أمام منطق الحرب، ولا أمام الوقائع الميدانية، ولا أمام سلوك الرباط نفسها.
أما البوليساريو، فعودة الكفاح المسلح لم تكن «خطأً»، بل أعادت النزاع إلى مربعه الحقيقي: نزاع تحرر وطني لا يُحسم بالدعاية الإعلامية، بل بميزان القوة على الأرض.
✍️ بلقاسم مرباح
وطني جزائري، حرّ في قلمه كما في مواقفه.
تعليقات
إرسال تعليق