مع اقتراب موعد التصويت الحاسم في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، والمقرر في 31 أكتوبر 2025، بشأن تجديد ولاية بعثة الأمم المتحدة للاستفتاء في الصحراء الغربية (المينورسو)، تتكثف النقاشات حول هذا الملف وتكشف عن استقطابٍ متزايد داخل المجتمع الدولي. وقد أثار مشروع القرار الذي قدمته الولايات المتحدة – بصفتها القلم التقليدي في هذا الملف – جدلاً واسعاً، كاشفاً خطوط الانقسام المستمرة بين القوى الكبرى والفاعلين الإقليميين.
تأسست بعثة المينورسو سنة 1991 لتشرف على وقف إطلاق النار بين المملكة المغربية وجبهة البوليساريو، وللتحضير لتنظيم استفتاء لتقرير المصير. غير أن هذا الاستفتاء لم يُجرَ قطّ، وأصبحت البعثة اليوم تعاني من ضعفٍ متزايد نتيجة القيود المالية – خاصة الأمريكية – والانسدادات السياسية المتكررة. وفي هذا السياق الحساس، أوصى الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش بتمديد ولاية البعثة لمدة عامٍ إضافي، إلى غاية 31 أكتوبر 2026، لإتاحة الفرصة لمبعوثه الشخصي ستافان دي ميستورا لإحياء العملية السياسية المتعثّرة.
منعطف في المقاربة الدولية
شكّل الاجتماع الأخير لمجلس الأمن منعطفاً في مسار التعاطي الدولي مع قضية الصحراء الغربية. فللمرة الأولى منذ سنوات، غيّرت الولايات المتحدة موقفها بشكلٍ واضح، في تطورٍ يعكس تحوّلاً ملموساً في منهجها الدبلوماسي. وقد جاء هذا التراجع ليعزّز الموقف الجزائري، الذي تميّز بدبلوماسية صبورة وحازمة أثبتت فعاليتها، وليبرز في الوقت ذاته صمود جبهة البوليساريو أمام الضغوط والمناورات المغربية المتكرّرة.
1. واشنطن تغيّر لهجتها: خطة الحكم الذاتي المغربية لم تعد “الحل الوحيد”
من أبرز معالم هذا التحول تعديلُ اللغة الدبلوماسية الأمريكية في نص مشروع القرار. قامت البعثة الأمريكية هذه المرة بحذف أي إشارةٍ حصرية إلى هذه الخطة.
وأصبح النص يشير إلى أن الحكم الذاتي “قد يكون أحد الحلول”، شأنه شأن المقترحات الأخرى، بما في ذلك تلك المقدّمة من جبهة البوليساريو. هذا التحوّل اللغوي ليس تفصيلاً بسيطاً، بل هو إقرار ضمني بمبدأ المساواة بين الطرفين وإحياء لحق تقرير المصير الذي يشكّل جوهر القضية الصحراوية منذ سنة 1963.
2. عودة مبدأ تقرير المصير: انسجام مع الشرعية الدولية
من خلال امتناع واشنطن عن تفضيل الخطة المغربية، أصبحت الآن منسجمة مع موقف جبهة البوليساريو ومع قرارات الأمم المتحدة التي تؤكد أن أي حلٍّ يجب أن يستند إلى الإرادة الحرة لشعب الصحراء الغربية.
هذا التغيير، وإن بدا دقيقاً في مظهره، إلا أنه استراتيجي في جوهره، إذ أنهى هيمنة الرواية المغربية داخل مجلس الأمن، وأعاد القضية إلى إطارها الشرعي: قضية تصفية استعمار وليست مجرد نزاعٍ ترابي.
وهكذا، تعترف الدبلوماسية الأمريكية ضمناً بأن الشعب الصحراوي هو من يملك حق اختيار مصيره – سواء في إطار الحكم الذاتي، أو الاستقلال، أو أي خيارٍ آخر – ضمن عملية استفتاء حرّة وشفافة.
3. تجديد ولاية المينورسو: عودة إلى منطق الأمم المتحدة
ومن مظاهر هذا التوازن الجديد أيضاً تجديد ولاية بعثة المينورسو لستة أشهر، بدلاً من ثلاثة أشهر كما كان مقترحاً في البداية، وهو ما كان سيُضعف البعثة ويُسارع بفرض تسويةٍ غير متكافئة.
ويمثّل هذا القرار رغبة في منح المبعوث الشخصي للأمين العام الوقت الكافي لإحياء مسارٍ سياسي حقيقي، متوافقٍ مع مبادئ ميثاق الأمم المتحدة.
4. موسكو كقوة توازن: الفيتو الروسي في الأفق
لعبت روسيا دوراً محورياً في إعادة تشكيل موازين القوى داخل مجلس الأمن.
فمن خلال تمسّكها بموقفٍ صارم وتهديدها باستخدام حق النقض (الفيتو) في حال تجاهل مقترحاتها، وجّهت موسكو رسالةً واضحة برفضها لأي مقاربةٍ منحازة في هذا الملف.
وقد ساهم هذا الموقف الروسي الحازم في كبح محاولات واشنطن تمرير نصٍّ منحازٍ للرباط، وعزّز في الوقت ذاته هامش المناورة الدبلوماسية للجزائر، الحليف الثابت لمبدأ تقرير المصير.
أما المشاورات الثنائية المرتقبة بين موسكو وواشنطن قبيل التصويت النهائي، فتعكس أزمة ثقةٍ داخل مجلس الأمن، وتؤكد أن المشروع الأمريكي الأصلي أصبح الآن بلا جدوى.
5. جبهة البوليساريو ثابتة على موقفها: لا تفاوض تحت الضغط
أكدت جبهة البوليساريو فوراً موقفها الثابت: لن تشارك في أي مفاوضاتٍ سياسية إذا تبنّى مجلس الأمن نصاً يستعيد مقاربة ترامب.
وليس هذا الرفض مجرّد موقفٍ رمزي، بل هو تعبير عن الشرعية ذاتها. فجبهة البوليساريو، المعترف بها من الأمم المتحدة كممثلٍ شرعي وحيد للشعب الصحراوي، تشدد على أن أي مبادرةٍ سياسية يجب أن تحترم حق هذا الشعب في تقرير مصيره.
وقد ساهم هذا الموقف الصلب، المدعوم من الجزائر، في دفع واشنطن إلى تعديل مشروع القرار.
6. انتصارٌ دبلوماسي جزائري لافت
يُعدّ التراجع الأمريكي انتصاراً دبلوماسياً بارزاً للجزائر التي دافعت بثباتٍ واقتناع عن الشرعية الدولية في وجه الضغوط والمناورات.
ويؤكد هذا النجاح أن قضية الصحراء الغربية تظل قضية تصفية استعمار، لا نزاعاً ثنائياً أو خلافاً حدودياً.
فبإعادتها مبدأ تقرير المصير إلى قلب النقاشات، نجحت الجزائر في قلب المعادلة التي فُرضت منذ 2020، وأثبتت أن اعتراف ترامب بـ“مغربية الصحراء” لا يحمل أي قيمة قانونية ولا أثر دائم.
اليوم تتراجع الولايات المتحدة، ويتساءل مجلس الأمن، فيما يجد المغرب نفسه في عزلةٍ دبلوماسية متزايدة، وقد خسر أهم أوراقه السياسية.
7. نحو استراتيجية جزائرية أكثر فعالية: تعزيز الموقف الصحراوي بكل الوسائل المشروعة
رغم وضوح هذا الانتصار، فهو ليس سوى محطةٍ ضمن مسارٍ طويل.
لقد أدركت الجزائر أن الدفاع عن حقوق الشعب الصحراوي لا يمكن أن يظل قائماً فقط على المقاومة السياسية والمعنوية السابقة. فإزاء خصمٍ يسعى إلى إدامة الوضع القائم، بات من المرجّح أن تُعيد الجزائر صياغة استراتيجيتها حول الملف الصحراوي بعمق.
ولن يعني هذا التعديل خروجاً عن الإطار القانوني الدولي، بل على العكس، سيجسّد مقاربةً أكثر شمولاً وفعالية، تقوم على محاور متكاملة:
- تعزيز الجهد السياسي والدبلوماسي: تكثيف العمل متعدد الأطراف، وتعبئة دول الجنوب، وتوسيع التحالفات داخل الاتحاد الإفريقي والمنظمات الإقليمية، إلى جانب تفعيل الدبلوماسية الإعلامية لعزل محاولات فرض الأمر الواقع.
- دعم مؤسسات الشعب الصحراوي: تعزيز التنمية المؤسسية، والحكامة، والخدمات الأساسية، والصلابة الاجتماعية والاقتصادية للشعب الصحراوي، لترسيخ قدرته على الصمود.
- تقوية القدرات الدفاعية للبوليساريو: تحسين وسائل المراقبة واللوجستيك والحماية المدنية والدفاع الجوي، خاصة في مجال مكافحة الطائرات المسيّرة، لضمان حرية الحركة في المناطق المحرّرة.
- التحرك القانوني والإعلامي: إعداد ملفاتٍ قانونية متكاملة لعرضها في المحافل الدولية، وتكثيف التواصل مع الهيئات القضائية والمنظمات الأممية، وإطلاق حملة إعلامية منظمة لإبراز شرعية القضية الصحراوية عالمياً.
- التنسيق مع جبهة البوليساريو: مرافقة سياسية وتقنية تمكّن الجبهة من التفاوض من موقع قوةٍ سياسية ومعنوية، عبر أدواتٍ سلمية تتماشى مع قرارات الأمم المتحدة.
ومن خلال هذه المقاربة المتكاملة، تسعى الجزائر إلى الانتقال من موقع ردّ الفعل إلى موقع الفعل، لتشكيل شروط تسويةٍ عادلة ودائمة قائمة على الحق والشرعية الدولية.
والهدف واضح: ضمان أن يدخل الطرف الصحراوي أي مفاوضاتٍ مستقبلية من موقع قوةٍ سياسية ودبلوماسية ومؤسسية لا يمكن تجاهلها.
الخاتمة: دبلوماسية الشرعية تنتصر على دبلوماسية الأمر الواقع
إن تجديد ولاية المينورسو لا يمثل مجرد إجراء إداري، بل يعكس تحولاً في المشهد الدولي.
فعودة الخطاب الأممي، وترسيخ مبدأ تقرير المصير، وصلابة الموقفين الروسي والصحراوي، وتحفظ الولايات المتحدة – كلها مؤشرات على انتصارٍ ساطع للدبلوماسية الجزائرية التي نجحت في فرض الشرعية على القوة، والثبات على الانتهازية.
وسيكون تصويت مجلس الأمن في 31 أكتوبر تتويجاً لهذا التحول: ليس مجرد تمديدٍ تقني، بل عودة الشرعية الدولية إلى ملف الصحراء الغربية – انتصارٌ للحق، وللشعب الصحراوي، ولرؤية الجزائر لمغربٍ عربيٍّ متحرر من كل هيمنة.
✍️ بلقاسم مرباح
وطني جزائري، حرّ في قلمه كما في مواقفه.
تعليقات
إرسال تعليق