تحت أروقة مجلس الأمن، تراجعت واشنطن عن طموحها في جعل خطة الحكم الذاتي المغربية القاعدة الوحيدة للتفاوض. أمام اختبار موازين القوى، اصطدم هذا الطموح بحسابات الأمم المتحدة، وتهديدات الفيتو، وسوابق القانون الدولي، ليعود الخطاب إلى صيغة مألوفة: «حل سياسي عادل ودائم ومقبول من الأطراف»، مع تمديد ولاية بعثة المينورسو دون أي تعديل جوهري. في الخلفية، يظل الحدث المفصلي هو اعتراف الولايات المتحدة في ديسمبر 2020 بسيادة المغرب، في إطار صفقة دبلوماسية ضمن اتفاقات أبراهام، ما أزاح القضية عن إطارها الأممي دون أن يخلق توافقًا متعدد الأطراف.
1) خطة بلا أطراف: الجزائر خارج المشاورات، والصحراويون مهمّشون
أكدت دورات 2024-2025 الانطباع بأن العملية تدار من خارج المنطقة: الجزائر انتقدت علنًا «انحياز» القلم الأمريكي وامتنعت عن التصويت عام 2024، فيما اكتفى المجلس بتمديد ولاية المينورسو لعام إضافي. والأهم أن الأطراف المعنية مباشرة—الصحراويين—لم يكونوا جزءًا من هندسة هذه الصفقات. جبهة البوليساريو رفضت رسميًا أي مسار يحدد مسبقًا النتيجة لصالح الحكم الذاتي، مؤكدة أن الصحراء الغربية لا تزال إقليمًا غير متمتع بالحكم الذاتي وفق الأمم المتحدة. هذا التناقض بين دبلوماسية «المظاهر» ومتطلب موافقة الشعب الصحراوي يعرقل أي تسوية سريعة.
2) ضغط القوى الكبرى وإشكالية «إضفاء الشرعية»
فكرة أن يُطلب من المجلس، تحت ضغط أمريكي وفرنسي مزدوج، إضفاء الشرعية على الاحتلال تبدو أكثر وضوحًا حين نقارنها بشلل المجلس في ملف غزة: فيتوات أمريكية متكررة ضد وقف إطلاق النار، وفيتوات روسية وصينية ضد نصوص أمريكية، في مشهد يكشف مؤسسة منقسمة حيث تحل «الدبلوماسية الاستعراضية» محل البحث عن التوازنات. في الملف الصحراوي، شددت باريس دعمها السياسي لخيار الحكم الذاتي، لكن الاتحاد الأوروبي كمؤسسة حافظ على خطه المؤيد للإطار الأممي، وظل مقيدًا بأحكام محكمة العدل الأوروبية التي تشترط موافقة الصحراويين لإدراج الإقليم في أي اتفاق مع المغرب. النتيجة: السياسة تتحرك، لكن القانون يكبح.
3) اتفاقات أبراهام: هندسة معالجة خارج الأمم المتحدة
في 10 ديسمبر 2020، اعترفت واشنطن بـ«سيادة» المغرب على الصحراء مقابل تطبيع الرباط مع إسرائيل. وثّقت الإعلان الثلاثي وتقارير الكونغرس هذه المقايضة، التي شكلت قطيعة مع عقود من الحذر الأمريكي وأبعدت القضية عن الإجماع الأممي. منذ ذلك الحين، حاولت مشاريع أمريكية عدة تثبيت الحكم الذاتي كإطار وحيد، لكنها اصطدمت بواقع مجلس الأمن ومتاهة الفيتو، لتعود إلى لغة أممية فضفاضة.
4) ليس انتصارًا للمغرب بل لحظة ترامب + انزياحات أوروبية
أعادت إعادة انتخاب ترامب تأكيد الاعتراف الأمريكي لعام 2020، وشددت الميل نحو الحكم الذاتي في واشنطن. في أوروبا، أعادت مدريد تأكيد أن الحكم الذاتي هو «الخيار الأكثر جدية»، ورفعت باريس مستوى دعمها، وانضمت بروكسل (بلجيكا) مؤخرًا إلى هذا المعسكر. ومع ذلك، لم يتبنَّ الاتحاد الأوروبي رسميًا هذا الخيار؛ إذ بقي ملتزمًا بالإطار الأممي، فيما كررت محكمة العدل الأوروبية أن موافقة الصحراويين شرط لأي اتفاق يشمل الإقليم. صدمة الحرب في أوكرانيا—التماسك عبر الأطلسي، وأولويات الطاقة والهجرة—سرّعت هذا التحول السياسي دون أن تزيل القيود القانونية.
5) موسكو وبكين وإغراء واشنطن بـ«ركيزة مغاربية»
التنافس على النفوذ في إفريقيا غذّى رؤية أمريكية للمغرب كـركيزة أمنية في شمال إفريقيا والساحل، في دور «وكيل استقرار» مستوحى من نماذج الشرق الأوسط، يروج له في الأوساط الاستراتيجية الأطلسية. في المقابل، تعزز موسكو وبكين حضورهما، بما في ذلك داخل المجلس، ما يجعل أي نص غير متوازن عرضة للإسقاط. التشبيه بـ«إسرائيل في المشرق / المغرب في المغرب» قد يغري صناع السياسات، لكنه يصطدم بالشرعية الأممية (وضعية تصفية الاستعمار، حق تقرير المصير)، ويهمّش فعليًا الجزائر والصحراويين كفاعلين سياسيين.
6) لا واقعية لدبلوماسية الصفقات
بعيدًا عن الشعارات، الخطة الأمريكية لا تهبط إلى الأرض:
- إقصاء المعنيين: الصحراويون يرفضون التفاوض تحت سقف محدد مسبقًا؛ والقضاء الأوروبي يكرّس موافقتهم كشرط قانوني.
- غياب الإجماع في المجلس: المبادرات الحصرية تتبخر في المداولات، والمينورسو تُمدَّد بلا تعديل في التفويض.
- واقع ثابت: الجمود الأمني واستحالة النزاع، كما تؤكد تقارير الأمم المتحدة، مستمران.
النتيجة: خطة غير عادلة (لأنها تتجاهل الفاعلية الصحراوية)، وغير قابلة للتنفيذ (لغياب الأساس القانوني والدعم الدولي).
7) الجزائر: الأمن القومي وخطوط حمراء
بالنسبة للجزائر، الصحراء الغربية قضية أمن قومي. في الأمم المتحدة، ترسم الدبلوماسية الجزائرية خطوطها: منطق تصفية الاستعمار، حق تقرير المصير، رفض أي فرض أحادي. تقارير مراكز الأزمات تحذر من خطر التصعيد إذا فُرض حل دون إشراك الأطراف، في بيئة مغاربية-ساحلية هشة أصلًا. لا يمكن لأي هندسة أمنية مستدامة في المنطقة أن تتجاهل الجزائر أو تتجاوز إدماج الصحراويين.
خاتمة: تحت سماء مثقلة باللايقين
يبقى النزاع الصحراوي مجمدًا حيث تتحطم إغراءات «الحل الحصري» على صخرة التعددية والشرعية. أمريكا تلوّح، أوروبا تنحاز سياسيًا، الرباط تندمج اقتصاديًا، الجزائر ترسم خطوطها الحمراء—لكن لا بديل عن مسار شامل، منسجم مع الإطار الأممي، قائم على معايير مقبولة من الأطراف. ما دام الملف يُدار كـ«متغير تابع» في معادلات جيوسياسية (اتفاقات أبراهام، تنافس القوى، إدارة الهجرة)، سيعيد إنتاج الجمود ويعمّق هشاشة المنطقة. القطيعة الحقيقية ليست في النصوص، بل في الآليات (إشراك الجزائر والصحراويين)، وفي القانون (احترام الوضعيات الأممية)، وفي السياسة (التخلي عن منطق الصفقات). وإلا، سيظل أفق الحل سرابًا تحت سماء مانهاتن المثقلة بالوهم.
✍️ بلقاسم مرباح
وطني جزائري، حرّ في قلمه كما في مواقفه.
تعليقات
إرسال تعليق