تثير بعض المنابر الإعلامية المغربية، على غرار هسبريس، في الآونة الأخيرة موضوع ما تسميه «الوساطة السعودية بين الجزائر والمغرب»، في محاولة لإضفاء شرعية جديدة على تحرك دبلوماسي يخدم مصالح الرباط ويُعيد إنتاج خطابها القديم حول “اليد الممدودة” و”الصفحة الجديدة”. غير أن المتابع الموضوعي لتاريخ العلاقات الجزائرية المغربية يدرك أن هذه العناوين الملساء ليست سوى واجهة لخطابٍ توسّعيٍ متجدد، يتستر خلف المبادرات الخليجية والأمريكية لفرض أمرٍ واقع في الصحراء الغربية.
تجربة الثمانينيات… دروس من وساطةٍ مُضلِّلة
من يتحدث اليوم عن “الوساطة السعودية” ينسى – أو يتناسى – أن الجزائر جربت هذا المسار سابقًا في نهاية الثمانينيات، حين لعبت الرياض دور الوسيط بين الشاذلي بن جديد والحسن الثاني. كانت النوايا المعلنة آنذاك هي “فتح صفحة جديدة بين الإخوة”، لكنها انتهت – كما يعلم الجميع – بتمكين المغرب من مكاسب اقتصادية وسياسية على حساب الأمن القومي الجزائري.
فقد فتحت الجزائر حدودها سنة 1988، وتم التوقيع على اتفاقيات تعاون واسعة، أبرزها تمرير أنبوب الغاز الجزائري عبر الأراضي المغربية نحو أوروبا، في خطوة فسّرها آنذاك البعض كرسالة حسن نية من الجزائر. غير أن الرد المغربي كان مختلفًا تمامًا: دعمٌ سياسي ولوجستي للجماعات الإسلامية المتطرفة خلال التسعينيات، وتسهيلاتٌ غير مباشرة لعناصر العنف الذين حاولوا زعزعة استقرار الدولة الجزائرية في واحدة من أحلك صفحات تاريخها المعاصر.
كانت النتيجة الحتمية لذلك إغلاق الحدود سنة 1994 بعد تورط السلطات المغربية في اتهامٍ علنيّ للجزائر بالإرهاب عقب تفجيرات مراكش، وإجبار المواطنين الجزائريين على التأشيرة، في خطوة عدوانية أنهت ما تبقى من الثقة بين البلدين.
الوساطة الجديدة… نفس المسرحية بأسماء جديدة
ما تروج له اليوم الأقلام المقرّبة من المخزن ليس سوى محاولة لإعادة تدوير الفشل القديم. فالمملكة المغربية، العاجزة داخليًا والمأزومة اجتماعيًا، تبحث عن غطاءٍ خليجي – أمريكي لتسويق “تسوية” نهائية لقضية الصحراء الغربية على حساب القانون الدولي وقرارات الأمم المتحدة.
أما الحديث عن “تحرك سعودي لحفظ ماء وجه الجزائر” فليس إلا استعلاءً سياسيًا مفضوحًا، يُخفي رغبة الرياض في كسب ودّ الرباط خدمةً لأجنداتٍ إقليميةٍ أوسع مرتبطة بالتطبيع مع الكيان الصهيوني والتحالفات الأمنية الجديدة في المنطقة.
الجزائر لا تحتاج إلى وساطةٍ من أحد، لأنها ليست طرفًا في نزاعٍ ثنائي بل دولة مبدئية تدافع عن حق تقرير المصير لشعبٍ مستعمر، وفقًا لقرارات الأمم المتحدة ومبادئ حركات التحرر التي ساهمت هي نفسها في صياغتها منذ باندونغ.
حين تُستخدم الوساطة لتصفية المواقف الوطنية
اللافت في الخطاب المغربي الجديد هو محاولته إقحام الولايات المتحدة والكونغرس الأمريكي في “إعادة تعريف” قضية الصحراء. وهذا ليس صدفة. فكلما ضاق الخناق الدبلوماسي على الرباط في إفريقيا وأوروبا، لجأت إلى تصدير الوهم بأن “العالم تغيّر” وأن “الملف انتهى”. والحقيقة أن المجتمع الدولي لم يعترف يومًا بسيادة المغرب على الصحراء، وأن الأمم المتحدة ما زالت تعتبرها أرضًا غير متمتعة بالحكم الذاتي.
ولعل أخطر ما في هذا الخطاب هو خلط المفاهيم القانونية حين يتحدث أحد الأكاديميين المغاربة عن “تصفية الاستعمار في تندوف والصحراء الشرقية”! إنه منتهى التزييف التاريخي والجغرافي، ومحاولة بائسة لتبرير أطماع توسعية مفضوحة. الجزائر لم تُقتطع من أحد، بل حررت أرضها كاملة بدماء مليون ونصف المليون شهيد، ولن تسمح لأي كان أن يعيد رسم حدودها بخيالٍ استعماري مريض.
الجزائر اليوم… ذاكرة قوية وسيادة لا تُساوَم
الجزائر التي استخلصت دروس الثمانينيات والتسعينيات ليست تلك الدولة التي يُمكن استدراجها اليوم بخطاب “الأشقاء” أو “الوساطات”. لقد بنت سياستها الخارجية على الثبات والمبدئية، وعلى رفض أي وساطةٍ مشبوهة تهدف إلى تطبيع الأمر الواقع في الصحراء الغربية أو إدخالها في دوائر النفوذ الخليجي ـ الأمريكي.
من يريد حقًا الاستقرار في المنطقة عليه أن يعترف أولًا بمسؤوليته عن التوترات السابقة، وأن يتخلى عن لعبة التضليل الإعلامي والادعاءات التاريخية، وأن يفهم أن الجزائر الجديدة لا تُلدغ من الجحر مرتين.
✍️ بلقاسم مرباح
وطني جزائري، حرّ في قلمه كما في مواقفه.
تعليقات
إرسال تعليق