التخطي إلى المحتوى الرئيسي

إيران بعد المواجهة مع الكيان: قراءة جيوسياسية في لحظة انكشاف استراتيجي

شهدت المنطقة خلال الأيام الاثني عشر الماضية واحدة من أكثر المواجهات الرمزية دلالة بين إيران والكيان الصهيوني، مواجهة لم تكن شاملة لكنها كشفت الكثير من مواطن القوة والضعف لدى الطرفين، خاصة في الجانب الإيراني. وفي ظل إعادة تشكل النظام الإقليمي بعد اتفاقات أبراهام، تكتسب هذه المرحلة أهمية خاصة في تقييم مستقبل إيران الإقليمي.





أولاً: انكشاف عسكري غير مسبوق


1. اختراق استخباراتي عميق وفشل في إدارة المجال الجوي


أولى الملاحظات الاستراتيجية تتمثل في الفشل الواضح للأجهزة الأمنية والاستخباراتية الإيرانية. فقد تم استهداف منشآت حساسة داخل عمق إيران دون إنذار مبكر فعّال، مما يكشف عن خلل عميق في بنية أجهزة الاستعلام. بات من الضروري أن تقوم طهران بإعادة هيكلة شاملة لجهاز استخباراتها، سواء من حيث التكنولوجيا أو من حيث الهيكل القيادي والربط المؤسسي بين الأذرع الأمنية والعسكرية.


كما أن استباحة الأجواء الإيرانية طيلة أيام المواجهة أظهرت بوضوح افتقار البلاد إلى منظومات دفاع جوي حقيقية وفعالة. إيران، رغم امتلاكها لقدرات صاروخية قوية، لا تزال تفتقر إلى دفاع جوي طبقي ومتعدد المنصات، يشمل قدرات على التصدي للطائرات المسيّرة، والصواريخ المجنحة، والطائرات الحربية المتقدمة. وهو ما يستدعي تعاوناً تقنياً مع الصين وروسيا لتحديث البنية الدفاعية.


2. سلاح جوّ رمزي دون فعالية هجومية أو ردعية


المعضلة الكبرى في بنية القوات الإيرانية تبقى سلاح الجو، الذي لا يملك القدرات المطلوبة لفرض معادلة توازن أو حتى الدفاع عن المجال الجوي الوطني. فالمقاتلات المتوفرة حالياً من طرازات قديمة تعود لعقود مضت، مثل الـF-14 والميراج، لم تعد قادرة على مواجهة التحديات المعاصرة. في المقابل، يمكن للصين أن تزوّد إيران بمقاتلات حديثة من طراز J-10C بتكنولوجيا متقدمة وشبحية جزئية، وهي فرصة يجب استغلالها إذا أرادت إيران أن تفرض هيبتها الجوية.


3. إشكالية الازدواج القيادي بين الجيش النظامي والحرس الثوري


تعيش المؤسسة العسكرية الإيرانية على وقع ازدواجية غير منتجة، تتمثل في وجود جيش نظامي بقيادة ومهام تقليدية، مقابل الحرس الثوري كمؤسسة عسكرية-عقائدية ذات صلاحيات موازية. هذا الانقسام يعرقل صناعة قرار عسكري موحد ويؤدي إلى تضارب في الاستراتيجيات. الحل الجذري يكمن في توحيد القيادة العسكرية تحت سلطة الدولة وليس الثورة، من أجل تجاوز العقلية العقائدية التي تعيق التحديث العسكري والمهني.


4. الصواريخ: قوة ردع يجب تثبيتها وتطويرها


رغم أوجه القصور الأخرى، تبقى القوة الصاروخية الإيرانية من أبرز عناصر الردع، حيث أظهرت قدرة على إطلاق ضربات دقيقة ومتعددة الأهداف. ورغم أن جزءاً منها تم اعتراضه، فإن الرسالة كانت واضحة: إيران قادرة على الرد. هذه المنظومة يجب أن يتم تعزيزها وتكاملها مع عناصر أخرى (جوّية وإلكترونية) لتتحول إلى عقيدة ردعية فعالة.


مصادر:

المعهد الدولي للدراسات الإستراتيجية (IISS): التوازن العسكري 2024

مركز الدراسات الإستراتيجية والدولية (CSIS): تحول القدرات العسكرية الإيرانية، 2024

فابريس بالانش، أطلس الشرق الأوسط، 2023




ثانياً: ضرورة إعادة تموضع سياسي في الإقليم


1. نهاية منطق “تصدير الثورة”: بداية لسياسة حسن الجوار؟


بعد عقود من التدخلات في الشأن العربي — في العراق، وسوريا، ولبنان، واليمن — بات من الضروري على إيران إعادة تقييم سياستها الخارجية. الاستمرار في سياسة “تصدير الثورة” لم تجلب لها سوى العزلة الإقليمية والضغط الدولي. المرحلة تقتضي الانخراط في سياسة إقليمية عقلانية قائمة على التعاون والتكامل الاقتصادي والتفاهم السياسي مع الجوار العربي.


إيران والعرب يشتركون في المصير والجغرافيا والتحديات الاقتصادية والأمنية، ولا سبيل لأي طرف في إقصاء الآخر. بل إن مستقبل المنطقة قد يكون أكثر ازدهاراً واستقراراً لو قررت طهران إنهاء منطق التدخل والاستعلاء، وفتحت صفحة جديدة من حسن الجوار.


2. هل نحن أمام إرهاصات تطبيع إيراني – إسرائيلي؟


رغم أن فكرة التطبيع بين إيران والكيان الصهيوني كانت إلى الأمس القريب ضرباً من الخيال، إلا أن المتغيرات الحالية تجعلها ممكنة في حال تغيّر القيادة السياسية في طهران.


أي تقارب إيراني-إسرائيلي، إن حصل، سيكون زلزالاً جيوسياسياً يُعيد رسم تحالفات المنطقة. لكنه يبقى رهين تحول داخلي كبير في إيران، وهو أمر مستبعد حالياً، لكنه ليس مستحيلاً على المدى المتوسط.


مصادر:

تريتا بارسي، خسارة عدو: أوباما وإيران وانتصار الدبلوماسية، 2017

مركز دراسات الشرق الأوسط – واشنطن: ديناميكيات ما بعد اتفاقات أبراهام، 2024

فالِي نصر، الصحوة الشيعية، 2022




ثالثاً: الدروس الجزائرية من المواجهة


بالنسبة للجزائر، كدولة محورية في العالم العربي وفاعل غير منحاز تقليدياً، فإن ما حصل يؤكد أهمية بناء جيش محترف وعقيدة دفاعية مستقلة وغير خاضعة لتجاذبات إيديولوجية. كما يبرز ضرورة تبني مقاربة استراتيجية ترتكز على السيادة، والاستقلال، وعدم التدخل، والدعوة إلى الحوار الإقليمي، لا الاصطفاف خلف مشاريع غامضة.


يمكن للجزائر أن تلعب دوراً في تقريب وجهات النظر بين إيران وجيرانها العرب، على قاعدة الاحترام المتبادل، ما يساهم في بناء منظومة أمن إقليمي متوازنة.




خاتمة


المواجهة الأخيرة بين إيران والكيان الصهيوني ليست نهاية لصراع، بل بداية مرحلة جديدة مليئة بالتحديات والخيارات المصيرية. على إيران أن تقرأ المرحلة بعين الدولة، لا بعين الثورة. وأن تعيد رسم تموضعها العسكري والسياسي بما يخدم استقرارها الداخلي ومكانتها الخارجية. المستقبل لا تصنعه الشعارات، بل الإرادة السياسية والاستراتيجية العقلانية.



✍️ بلقاسم مرباح




تعليقات

  1. The have educated society but sharply divided and that's what very rich ground of harka and harka

    ردحذف

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

رسالة مفتوحة إلى رئيس الجمهورية السيد عبد المجيد تبون

سيدي الرئيس، أتمنى أن تصلكم هذه الرسالة و أنتم بصحة جيدة. أكتب إليكم اليوم بقلب مثقل لأعبر عن قلقي العميق واستيائي لوجود أكثر من 1.2 مليون مغربي في أرض الجزائر الطاهرة. كمواطن مسؤول ومعني ، أشعر أنه من واجبي أن أوجه انتباهكم إلى هذا الأمر. أود أولاً أن ألفت انتباهكم إلى الروابط بين أجهزة المخابرات الإسرائيلية والمغرب. لقد تم الكشف أن الموساد يجند بشكل كبير في الجالية المغربية في فرنسا. هل لدينا ضمانة أن الكيان الصهيوني لا يفعل الشيء نفسه في الجزائر؟ هذه القضية مصدر كرب وإحباط لمواطني بلادنا الذين يفقدون الأمل في التمثيلية الوطنية التي يفترض أن تدافع عن المصلحة العليا للوطن. لماذا يجب أن نبقي على أرضنا رعايا دولة معادية؟ لماذا لا نعيد هؤلاء إلى وطنهم لتفاقم الأزمة الاجتماعية والاقتصادية لبلد يتآمر ضد مصالحنا ويغرق بلدنا بأطنان من المخدرات؟ لماذا يجب أن نتسامح مع وجود اليوتيوبرز المغاربة في الجزائر الذين يسخرون يوميا من الشعب الجزائري؟ نعتقد أن الجزائر يجب أن تقطع العلاقات القنصلية مع المغرب في أسرع وقت ممكن ، لأن الغالبية العظمى من الشعب المغربي يشتركون في نفس الأطروحات التوسعية مثل ن...

دعم فرنسي للخطة المغربية للحكم الذاتي للصحراء الغربية

 أعربت الجزائر، يوم الخميس، عن "استنكارها الشديد" للقرار الفرنسي الأخير بدعم خطة الحكم الذاتي المغربية للصحراء الغربية. وقد وصف هذا الموقف بأنه "غير متوقع، وغير مناسب، وغير مجدي" من قبل وزارة الخارجية الجزائرية. وقد أكدت الحكومة الجزائرية بوضوح أنها ستستخلص جميع العواقب المترتبة عن هذا القرار، محملة الحكومة الفرنسية المسؤولية الكاملة. وقد أثار الاعتراف الفرنسي بخطة الحكم الذاتي المغربية، التي تُعتبر إضفاءً للشرعية على السيادة المتنازع عليها للمغرب على الصحراء الغربية، رد فعل حاد في الجزائر. ونددت وزارة الخارجية الجزائرية بهذا القرار باعتباره عملاً داعماً "لفعل استعماري"، يتعارض مع مبادئ إنهاء الاستعمار التي تدعمها المجتمع الدولي. ويعتبر هذا الموقف أكثر إثارة للجدل بالنظر إلى أنه صادر عن عضو دائم في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، الذي من المفترض أن يحترم ويعزز الشرعية الدولية. وتعتبر الجزائر هذا القرار عائقاً أمام الحل السلمي لقضية الصحراء الغربية، مشيرة إلى أن خطة الحكم الذاتي المغربية قد أدت إلى مأزق مستمر منذ أكثر من سبعة عشر عاماً. وأعربت الوزارة عن أ...

عبد العزيز رحابي يحلل اتفاقية الشراكة مع الاتحاد الأوروبي

 في مقابلة مع TSA Algérie ، تحدث عبد العزيز رحابي، الدبلوماسي والوزير الجزائري السابق، عن توقيع اتفاقية الشراكة بين الجزائر والاتحاد الأوروبي (EU)، ودور الدبلوماسية الجزائرية وتأثير الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة. النقاط الرئيسية في المقابلة مشاكل اتفاقية الشراكة الجزائر-الاتحاد الأوروبي : انتقد رحابي اتفاقية الشراكة موضحًا أنها لم تحقق الأثر المتوقع للجزائر. وأعرب عن أسفه لعدم وجود حوار حقيقي بين الجزائر وأوروبا حول القضايا الحيوية مثل الأمن الإقليمي، الإرهاب، الهجرة والتهديدات الاقتصادية والاستراتيجية. شدد على أن الجزائر خسرت ما يقرب من 16 مليار دولار نتيجة التفكيك التدريجي للتعريفات الجمركية المنصوص عليه في الاتفاقية، في حين أن الاستثمارات الأوروبية في الجزائر ظلت ضعيفة. دور الحكم الرشيد والدبلوماسية : أكد رحابي على أهمية الحكم الرشيد لتجنب توقيع الجزائر على اتفاقيات تجارية غير مواتية. انتقد الإدارة الجزائرية لافتقارها للإصلاحات واعتمادها على اقتصاد الريع، مما يعرقل جهود التحديث والتكيف مع التغيرات الاقتصادية العالمية. مفاوضات الاتفاقية : أشار رحابي إلى أن فكرة التعاون الأورو...