موسكو بين الحليف والوسيط: قراءة تحليلية في موقف روسيا من الحرب الإيرانية – الإسرائيلية وآفاقه المستقبلية
في خضم التوترات المتصاعدة بين الجمهورية الإسلامية الإيرانية والكيان الصهيوني، تبرز روسيا كفاعل محوري يوازن بين شراكة إستراتيجية مع طهران، وعلاقات حذرة ومصلحية مع تل أبيب. تصريحات القيادة الروسية الأخيرة، وعلى رأسها الرئيس فلاديمير بوتين والمتحدث باسم الكرملين ديمتري بيسكوف، تؤكد على ما يبدو أنه موقف مزدوج دقيق، تسعى موسكو من خلاله إلى تجنّب الانزلاق في مواجهة مباشرة، وفي الوقت ذاته الحفاظ على موقعها كقوة عظمى ذات نفوذ في معادلات الشرق الأوسط.
أولاً: دعم سياسي ثابت دون ترجمة عسكرية
أكد الكرملين صراحة أن إيران لم تطلب أي دعم عسكري من روسيا، وأن الشراكة بين البلدين لا تتضمن بنودًا دفاعية. ومع أن هذا النفي يبدو تقنياً، فإن مغزاه السياسي عميق: موسكو تسعى لتفادي الدخول في حرب بالوكالة ضد إسرائيل أو الولايات المتحدة، وتُبقي على دعمها لطهران ضمن الحدود السياسية والرمزية، خاصة في ظل حرجها الجيوسياسي في الحرب الأوكرانية.
في المقابل، لا تنكر موسكو وجود أكثر من 250 خبيرًا روسيًا في منشأة بوشهر النووية، ما يعكس ارتباطًا وثيقًا بالمشروع النووي الإيراني، لكن بوتين سارع إلى طمأنة تل أبيب بأن سلامتهم محل تفاهم. هذا التوازن يعكس حرص روسيا على تجنّب استفزاز إسرائيل أو خسارة الورقة الإيرانية.
ثانيًا: ازدواجية العلاقة مع تل أبيب
رغم توتر العلاقات بين إيران والاحتلال، حافظت موسكو على قنوات مفتوحة وثقة متبادلة مع تل أبيب. روسيا تستوعب التأثير الإسرائيلي في الملف السوري وفي الساحة الدولية، وتدرك أن استعداءها قد يُفضي إلى تصعيد غير مرغوب فيه.
تصر موسكو على أنها لا ترغب في لعب دور الوسيط إذا كان هدف تل أبيب وواشنطن هو تغيير النظام الإيراني، ما يكشف إدراكها لخطورة الأهداف الإستراتيجية الغربية – الصهيونية. لكنها في الوقت ذاته لا تبدي استعداداً للدخول في مواجهة دفاعية إلى جانب إيران، مما يغذي انتقادات الحلفاء في طهران الذين يرون في هذا الموقف فتورًا أو حتى تنصلاً من المسؤوليات الإستراتيجية.
ثالثًا: التحذير الروسي لواشنطن… دبلوماسية الردع دون التورط
روسيا وجّهت تحذيرات شديدة اللهجة للولايات المتحدة من مغبة التدخل العسكري المباشر لصالح إسرائيل. تصريحات ريابكوف تحمل طابع الردع الاستباقي، وتحذّر من “دوامة تصعيد رهيبة” في حال دعم واشنطن لتل أبيب ميدانيًا. إلا أن موسكو، وهي تخوض صراعًا شرسًا في أوكرانيا، تعلم أن هامش مناورتها محدود، وأن تدخلها الميداني المباشر في الشرق الأوسط قد يفتح جبهة إضافية مكلفة
رابعًا: الحسابات الروسية في ظل الدعم الإيراني لروسيا في أوكرانيا
إيران كانت من أهم الداعمين العسكريين لروسيا في حربها ضد أوكرانيا، من خلال تزويدها بمسيّرات متطورة وصواريخ دقيقة. هذا الدعم جعل موسكو مدينة لطهران سياسيًا، لكنّها حتى الآن لم تترجمه إلى دعم مماثل في الصراع مع إسرائيل، ما يفتح تساؤلات حول حدود التحالف الروسي الإيراني، وحول ما إذا كان هذا التحالف تحالف مصالح ظرفية أكثر منه تحالفًا إستراتيجيًا صلبًا.
خامسًا: سيناريوهات مستقبلية
1. استمرار الوضع الحالي (الحياد المرن)
من المرجّح أن تُبقي موسكو على موقفها الحالي القائم على الحياد التكتيكي، مع دعم سياسي لإيران وضبط النفس تجاه إسرائيل. هذا السيناريو يحفظ لموسكو أوراقها مع الطرفين دون الدخول في مواجهة مفتوحة.
2. انزلاق أمريكي في الصراع
في حال قررت الولايات المتحدة التدخل عسكريًا، خصوصًا لتدمير منشآت نووية مثل فوردو، قد تجد روسيا نفسها مضطرة إلى رفع مستوى دعمها السياسي وربما العسكري لإيران، خاصة إذا اعتُبر الهجوم تهديدًا مباشرًا للشرعية الدولية أو توازنات القوى في المنطقة.
3. تفعيل شراكة دفاعية روسية – إيرانية مستقبلية
في حال فشل رهان روسيا على ضبط النفس الإسرائيلي – الأمريكي، ووقوع هجوم يستهدف قيادات رمزية في طهران، مثل المرشد الأعلى خامنئي، فقد تُضطر موسكو إلى إعادة النظر في علاقاتها الدفاعية مع طهران، وتفعيل شراكة تتجاوز مجرد التعاون النووي السلمي.
4. وساطة روسية محتملة بشروط
في حال تبريد الجبهات، قد تحاول موسكو لعب دور الوسيط بين طهران وتل أبيب، خصوصًا إذا توافرت إرادة أمريكية وغربية لاحتواء الصراع، وتقديم ضمانات للجانبين. هنا يمكن لموسكو أن توظّف موقعها في سوريا، وعلاقاتها مع كافة الأطراف، لتحقيق مكاسب دبلوماسية تعزز مكانتها الدولية.
خاتمة: بين البراغماتية والتردد
موقف روسيا من الحرب الإيرانية – الإسرائيلية هو نموذج حي لمدى تعقيد السياسة الخارجية في عالم متعدد الأقطاب. موسكو تحاول الموازنة بين التحالف مع طهران، والاحتفاظ بخط رجعة مع تل أبيب، وتفادي استعداء واشنطن في لحظة اشتعال عالمي. إلا أن هذه البراغماتية المفرطة قد تُفقدها تدريجيًا مصداقية التحالفات، ما لم تترجم دعمها لإيران في لحظة الحقيقة.
ومع كل ذلك، تبقى روسيا لاعبًا محوريًا لا يمكن تجاوزه، وإن كانت، في هذه المرحلة، لا تصنع التاريخ بقدر ما تحاول تأجيله.
✍️ بلقاسم مرباح
تعليقات
إرسال تعليق