بعيدًا عن مظاهر المجاملات الدبلوماسية، يشكّل التقارب الأخير بين الأنظمة العسكرية في مالي وبوركينا فاسو والنيجر – المنضوية تحت ما يُعرف بـ”تحالف دول الساحل” (AES) – والنظام الملكي في المغرب، انحرافًا استراتيجيًا خطيرًا يحمل في طياته نتائج كارثية على مستقبل شعوب هذه الدول. فبدلًا من تحقيق الانفكاك الحقيقي عن التبعية، تسير هذه الأنظمة نحو استبدال التبعية الفرنسية المباشرة بوليٍّ إقليمي تابع لباريس، في إعادة إنتاج مُقنّعة لمنظومة “فرنسا الإفريقية”.
زيارة جوفاء وواجهة إعلامية
الزيارة الأخيرة لوزراء خارجية دول “AES” إلى الرباط لم تكن سوى عرض مسرحي دبلوماسي صُمِّم بعناية للاستهلاك الإعلامي، حيث تولّت الأجهزة المغربية إعداد البيان المشترك ونشره بشكل مفرط على وسائل الإعلام والشبكات الاجتماعية، في محاولة لإظهار تحوّل استراتيجي مزعوم في توجهات الدول الثلاث.
غير أن هذا الحراك لا يعكس واقعا استراتيجيا حقيقيا، بقدر ما يُعبّر عن أزمة عزلة حادّة دفعت بهذه الأنظمة العسكرية للبحث عن أي غطاء خارجي، ولو كان من نظام لا يملك شيئًا ليقدّمه سوى الوعود الكاذبة والدين الخارجي المتضخم.
المغرب: حليف هشّ وامتداد استراتيجي لفرنسا
النظام المغربي نفسه يعيش أزمة مالية خانقة بدين خارجي يقارب 110 مليارات دولار، وبعجز متزايد عن تلبية احتياجات شعبه. لم يتمكن حتى الآن من إعادة إسكان ضحايا زلزال الحوز الذي ضرب البلاد في سبتمبر 2023، في وقت تم فيه إسكان العائلات الجزائرية المتضررة من انهيار أرضي في وهران خلال أقل من 24 ساعة.
فما الذي تنتظره مالي والنيجر وبوركينا فاسو من نظام عاجز عن إنقاذ شعبه، بينما ينفق ملوك وساسة المغرب أموال المخدرات على شراء القصور في باريس؟ كيف يمكن لهذه الدول أن تثق في نظام يُطلق الرصاص الحي على المهاجرين الأفارقة ويطاردهم على حدود أوروبا؟
موسكو وبكين وأنقرة: المصالح أولاً
قد تعتقد الأنظمة الثلاثة أنها ستوازن علاقاتها عبر الانفتاح على روسيا، الصين أو تركيا، غير أن هذه القوى الكبرى لن تضحي بعلاقاتها الاستراتيجية العميقة مع الجزائر، من أجل دول مفلسة ومعزولة سياسيًا. فالصين تعتبر الجزائر شريكًا اقتصادياً أول في شمال إفريقيا، وروسيا تربطها بها علاقات عسكرية وتاريخية قوية، وتركيا تنسق معها على مستويات استراتيجية متقدمة.
وعليه، فإن رهان “الأيس” على المغرب لن يمنحها عمقًا دوليًا حقيقيًا، بل سيزيد من عزلتها ويدفعها إلى التصادم مع الجزائر، التي لطالما قدّمت دعماً لشعوب الساحل، من الغذاء إلى الطاقة، ومن التعليم إلى الأمن.
الانعزال عن إفريقيا وتصعيد العداء مع الجزائر
العداء المفتوح مع الجزائر، وإغلاق باب المصالحة مع المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا (ECOWAS)، والارتماء في أحضان الرباط، لا يُعبّر عن سياسة سيادية بقدر ما يُمثّل انتحارًا دبلوماسيًا سيُثقل كاهل شعوب الساحل التي تعاني أصلًا من الفقر والجفاف وانعدام الأمن.
من المقلق أن تُدار دول بكاملها كأنها قواعد عسكرية، دون رؤى اقتصادية أو مشروع حضاري، بل فقط عبر شعارات وشبه تحالفات لا تملك مضمونًا استراتيجياً.
خاتمة: من الثورة إلى الارتزاق
الأنظمة العسكرية الثلاثة التي جاءت بدعوى التحرر من الاستعمار، تتحول الآن إلى أدوات في يد باريس، عبر الرباط. فقد اختارت الخضوع لنظام ملكي قائم على المبايعة والانبطاح، بدل التعاون مع دول الجوار التي تشاطرها المصير والتاريخ.
أما الشعوب، فلن تجني من هذه السياسات سوى المزيد من المعاناة، إلى أن يسقط هؤلاء القادة كما سقط غيرهم، وتبدأ دورة جديدة من البحث عن السيادة المفقودة.
✍️ بلقاسم مرباح
تعليقات
إرسال تعليق