على مدار الأيام القليلة الماضية، أثارت تصريحات وزير الداخلية الفرنسي، برونو ريتايو، موجة من الجدل والاستياء على جانبي البحر الأبيض المتوسط. التصريحات التي تحمل نبرة عدائية واتهامات مبطنة ضد الجزائر تسلط الضوء على محاولة واضحة لتأجيج الخلافات السياسية في فرنسا، بالإضافة إلى تعزيز ديناميكيات دبلوماسية مقلقة بين باريس والجزائر. وبدلاً من تبني خطاب متزن وبنّاء حول القضايا الحساسة، تبدو تصريحات الوزير وكأنها تهدف إلى صرف الانتباه عن التحديات الحقيقية التي تواجهها فرنسا داخليًا.
خطاب عدائي وهجمات موجهة
منذ توليه منصب وزير الداخلية، يبدو أن برونو ريتايو قد جعل الجزائر هدفًا مفضلًا في خطاباته العامة. ومن بين تصريحاته الأكثر إثارة للجدل كانت تلك التي اتهم فيها الجزائر بـ "السعي لإهانة فرنسا". تصريحات كهذه، التي تتسم بنبرة حادة وغير مألوفة، تعكس تصعيدًا لفظيًا حيث يتم استبدال الحوار الدبلوماسي المتزن بالهجوم المباشر على دولة ذات سيادة.
وما يزيد الأمر غرابة هو أن هذه التصريحات تبدو مشجعة من قِبل إطار سياسي أوسع، حيث يُقال إن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون ورئيس حزبه فرانسوا بايرو قد منحا ريتايو حرية كاملة في التعامل مع هذا الملف، مما أفسح المجال لتأجيج التوترات مع الجزائر.
ومع ذلك، فإن ما يثير السخرية هو الانتقائية الواضحة في "الغضب" الذي يعبر عنه الوزير. على سبيل المثال، خلال زيارة وزير الخارجية الفرنسي الأخيرة إلى القدس، تعرض اثنان من عناصر الدرك الفرنسيين لموقف مهين حيث تم طرحهما أرضًا من قبل الشرطة الإسرائيلية، على الرغم من مكانتهما الدبلوماسية. هذا الحادث الذي يمثل فعلاً مهينًا لفرنسا لم يثر أي رد فعل يُذكر من برونو ريتايو، الذي يُفترض أنه المسؤول عن الدفاع عن كرامة بلاده. فكيف يمكن للوزير أن يدعي أن الجزائر "تحاول إذلال" فرنسا بينما يلتزم الصمت حيال ما حدث في القدس؟
إن هذه الازدواجية الواضحة في المعايير تسلط الضوء على أهداف سياسية داخلية بحتة وراء خطاب ريتايو، الذي يبدو أنه يستخدم الجزائر كوسيلة لتحقيق مكاسب سياسية في الداخل الفرنسي، بدلاً من الدفاع الحقيقي عن شرف فرنسا.
حلفاء مشكوك فيهم وحجج واهية
لا يقتصر الأمر على خطاب ريتايو فحسب، بل تدعمه شخصيات إعلامية وسياسية معروفة بمواقفها المثيرة للجدل، مثل القاضي السابق جورج فنيش. هذا الأخير صرح مؤخرًا، بدون أي سند علمي، بأن "98% من الشباب الجزائريين يحلمون بالهجرة إلى فرنسا". هذه الادعاءات التي تفتقر إلى أي أساس واقعي تتماشى مع حملة تهدف إلى وصم الجزائر ومواطنيها.
لكن الأرقام الحقيقية تكذب هذه الرواية. وفقًا لبيانات السفارة الفرنسية في الجزائر، لا يتجاوز عدد الجزائريين الذين يهاجرون إلى فرنسا بشكل قانوني 300 ألف شخص، وهو رقم يمثل نسبة ضئيلة جدًا من سكان الجزائر. علاوة على ذلك، فإن أعداد المهاجرين الجزائريين غير الشرعيين في انخفاض مستمر، على عكس ما تحاول بعض وسائل الإعلام الفرنسية تصويره. بل إن أعداد المهاجرين السريين الجزائريين تقل بكثير عن نظرائهم من المغرب ودول إفريقيا جنوب الصحراء أو اللاجئين القادمين من آسيا الوسطى والشرق الأوسط.
فشل داخلي يُخفيه الهجوم الخارجي
بينما يخصص برونو ريتايو جزءًا كبيرًا من وقته لانتقاد الجزائر، فإن وزارته تعاني من إخفاقات واضحة في التعامل مع القضايا الداخلية في فرنسا. في مرسيليا، على سبيل المثال، يستمر تجار المخدرات في توسيع نطاق نشاطهم الإجرامي ليشمل أشكالًا جديدة مثل الابتزاز المالي. وفي ماكون، المدينة الهادئة، شهدت مؤخرًا موجة من الحرائق المتعمدة التي نفذها شباب يحاولون فرض سيطرتهم وإقامة شبكات تجارة المخدرات.
بالإضافة إلى ذلك، أثار قرار الوزير بوضع مئة قاصر مغربي في إسطبل للخيول غضبًا واستياءً واسعًا. هذه الحوادث تسلط الضوء على إدارة متعثرة للقضايا الحساسة داخل فرنسا، بينما يستمر الوزير في الهجوم على الجزائر لتحقيق مكاسب سياسية.
ازدواجية المعايير في الحديث عن القوة العسكرية
من بين التصريحات المثيرة الأخرى التي صدرت عن الدائرة المقربة من ريتايو، تذكير جورج فنيش بأن "فرنسا هي سادس أقوى قوة عسكرية في العالم". هذه العبارة التي أطلقت في سياق التهديد تكشف عن جهل واضح بالحقائق. فبينما يواجه الجيش الفرنسي انتقادات داخلية وخارجية بشأن تراجع جاهزيته المادية واللوجستية، يتجاهل هذا الخطاب واقع قوة الجيش الجزائري الذي يُعترف به على نطاق واسع كواحد من أقوى الجيوش في المنطقة من حيث الموارد البشرية والقدرات التقنية.
تشتيت الانتباه لأغراض سياسية
في نهاية المطاف، يبدو أن خطاب برونو ريتايو المعادي للجزائر ليس سوى محاولة لتشتيت انتباه الرأي العام الفرنسي عن المشاكل الداخلية المتفاقمة. فبدلاً من مواجهة تحديات مثل تزايد الجريمة، اتساع الفوارق الاجتماعية، وتدهور الخدمات العامة، اختار الوزير استخدام الجزائر كذريعة لصرف الأنظار.
خاتمة
إن استخدام الجزائر كورقة ضغط سياسية من قِبل برونو ريتايو ليس فقط غير مجدٍ ولكنه أيضًا مضر بالعلاقات الثنائية بين البلدين. هذه التصريحات الموجهة والمصحوبة بازدواجية في المعايير، كما يظهر من حادثة القدس، تكشف عن نوايا سياسية ضيقة تهدف إلى تعزيز مكانته الداخلية على حساب العلاقات الدبلوماسية. إن بناء سياسة قائمة على الاستفزاز لن يؤدي إلا إلى تفاقم التوترات وزيادة التباعد بين البلدين.
بلقاسم مرباح
تعليقات
إرسال تعليق