مرة أخرى، تتسرّع الأبواق الإعلامية للمخزن في النفخ في أبواق النصر الدبلوماسي الوهمي. فبعد كل لقاء أو تصريح عابر، يسارع الإعلام الرسمي المغربي إلى إعلان “تحوّل تاريخي” في مواقف القوى الكبرى تجاه قضية الصحراء الغربية. هذه المرة، جاء الدور على روسيا، التي قرأتها هسبريس كما يحلو لها، لا كما قالت هي.
عندما يصبح “الحياد” نصراً دبلوماسياً
في مقال متخم بالتمنيات أكثر من الوقائع، تحاول الجريدة المخزنية تقديم كلام وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف عن “حل واقعي ومتوازن ومقبول من جميع الأطراف” كدليل على دعم موسكو للمقاربة المغربية. والحقيقة أن هذه العبارة ليست سوى نسخة حرفية من اللغة الأممية المعتمدة منذ عقود، والمستندة إلى قرارات مجلس الأمن التي تؤكد على ضرورة حل سياسي متوافق عليه يضمن حق الشعب الصحراوي في تقرير مصيره.
لكن المخزن، في بحثه الدائم عن جرعة وهم جديدة، يقرأ ما يريد أن يسمع، لا ما يُقال فعلاً.
روسيا لا تشتري رمال الوهم
من يعرف مدرسة السياسة الروسية يدرك أن موسكو لا تغيّر مواقفها بالابتسامات ولا بالمجاملات. فروسيا التي وقفت ضد الغزو الأطلسي لليبيا، والتي ما تزال تعتبر قضية فلسطين مسألة تصفية استعمار، لن تُقايض مبادئها في الصحراء الغربية من أجل صفقات صيد بحري أو سياحة موسمية.
حديث لافروف عن “حل واقعي ومتوازن” لا يعني أبداً القبول بـ”الحكم الذاتي”، بل يشير إلى ضرورة الالتزام بالشرعية الدولية، أي بالعودة إلى أصل الملف: تصفية الاستعمار وتمكين الشعب الصحراوي من تقرير مصيره بحرية. ولو كان للمخزن شجاعة القراءة القانونية، لوجد أن كلمة “متوازن” هنا تُلغي تماماً أي طرح أحادي مثل خطته الذاتية.
دبلوماسية الأوهام
إن ما تفعله وسائل الإعلام المخزنية اليوم هو ما تفعله منذ نصف قرن: تحويل الكلمات العامة إلى نصر قومي، واللقاءات البروتوكولية إلى “تحوّلات استراتيجية”. بالأمس كانت فرنسا، ثم الولايات المتحدة، ثم إسبانيا، والآن روسيا. وكل مرة يكتشف المخزن أن “الاعتراف المنتظر” ليس سوى سراب جديد، فيعود إلى المربع الأول: التطبيل ثم الإحباط ثم التبرير.
بل إن الروس أنفسهم، في كل مناسبة، يؤكدون أن موقفهم من الصحراء الغربية لم يتغير، وأنهم يدعمون قرارات الأمم المتحدة الداعية إلى حل عادل يضمن حق الشعب الصحراوي في تقرير مصيره.
من يقرأ القانون الدولي يعرف الحقيقة
من المفارقات أن هسبريس تنقل عن “باحثين” مغاربة كلاماً يُضحك حتى المبتدئين في العلاقات الدولية. أن يقول أحدهم إن “الاعتراف الضمني الروسي حاصل”، فذلك يشبه القول إنّ “الجزائر تعترف ضمنياً بمغربية مدريد”! روسيا دولة دائمة العضوية في مجلس الأمن، لا تبني مواقفها على العواطف، بل على المرجعيات القانونية. وهي لم تصوّت يوماً ضد قرارات الأمم المتحدة التي تُصنّف الصحراء الغربية كـإقليم غير متمتع بالحكم الذاتي خاضع لتصفية الاستعمار.
فأين هو “التحول التاريخي” الذي تتحدث عنه هسبريس؟
الحقيقة التي يخشاها المخزن
الرباط تدرك تماماً أن لا دولة كبرى، لا في الغرب ولا في الشرق، مستعدة لمغامرة قانونية تُكرّس احتلالاً واضحاً. فحتى الدول التي دعمتها إعلامياً لم تجرؤ على نقل قنصلياتها إلى الداخلة من دون تحفظات قانونية، لأن الشرعية الدولية ثابتة كالصخر: الصحراء الغربية ليست مغربية، ولن تكون كذلك بالقنصليات ولا بالتصريحات الانتقائية.
بين موسكو ومانهاتن
من يريد أن يفهم الموقف الروسي، عليه أن ينظر إلى تصويتها داخل مجلس الأمن، لا إلى لقاءات المجاملة. فروسيا تعرف جيداً أن الملف الصحراوي يُدار من مانهاتن، لا من الرباط. هناك، في مقر الأمم المتحدة، يُرسم مستقبل الأقاليم غير المستقلة، وليس في بيانات هسبريس أو خطابات “الإنجازات الدبلوماسية”.
الخلاصة:
المخزن يواصل العزف على نغمة “الانتصارات” الدبلوماسية، في محاولة لتسكين الشارع المغربي الذي أنهكته الأزمات الداخلية. أما الحقيقة فهي أن روسيا لم تغيّر موقفها قيد أنملة، وأن حديثها عن “حل واقعي ومتوازن” لا يعني سوى العودة إلى منطق الأمم المتحدة: تقرير المصير أولاً، والباقي تفاصيل.
فلتفرح هسبريس بما تشاء من “انتصارات لغوية”، فالقانون الدولي لا يُترجم بالعواطف، والتاريخ لا يُكتب بالوهم.
✍️ بلقاسم مرباح
وطني جزائري، حرّ في قلمه كما في مواقفه.
تعليقات
إرسال تعليق