التخطي إلى المحتوى الرئيسي

التقارب الفرنسي-المغربي: خيار اضطراري أم استمرار للنهج النيو-استعماري؟

منذ وصول الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون إلى السلطة في 2019، دخلت العلاقات الجزائرية-الفرنسية مرحلة جديدة اتسمت بالتوتر والقطيعة التدريجية. هذه التطورات لم تكن وليدة الصدفة، بل جاءت نتيجة قرار سيادي من الجزائر بفك الارتباط مع النفوذ الفرنسي، الذي ظل حاضرًا منذ الاستقلال. في مواجهة هذا التحول، وجدت باريس نفسها مجبرة على تعزيز تحالفها التقليدي مع المغرب. لكن هل كان هذا خيارًا استراتيجيًا، أم مجرد هروب إلى الأمام في إطار سياسة الضغط على الجزائر؟

1. فرنسا وإفريقيا: نموذج نيو-استعماري في تراجع

لطالما اعتمدت فرنسا في سياستها الإفريقية على مبدأ الهيمنة الاقتصادية والسياسية، فيما يُعرف بـ "فرانس-أفريك". هذا النموذج، القائم على نهب الموارد الطبيعية، دعم النخب الموالية، وحرمان الدول الإفريقية من التصنيع ونقل التكنولوجيا، مكّن باريس من الحفاظ على نفوذها لعقود بعد انتهاء الاستعمار.

أ. هيمنة اقتصادية على حساب التنمية

بخلاف قوى جديدة مثل الصين، روسيا، وتركيا، التي دخلت السوق الإفريقية بعروض تقوم على الشراكة والتنمية، فضّلت فرنسا مواصلة نهجها التقليدي:

  • استغلال المواد الأولية كالنفط، الغاز، واليورانيوم، دون إرساء صناعات تحويلية محلية.
  • فرض عقود غير متوازنة على الدول الإفريقية، تضمن استمرار السيطرة الفرنسية.
  • دعم أنظمة حليفة تضمن الحفاظ على المصالح الفرنسية، مقابل إجهاض أي مشاريع سياسية واقتصادية استقلالية.

ب. الجزائر: استثناء متمرد

منذ استقلالها عام 1962، شكّلت الجزائر استثناءً في هذا المشهد. تاريخها الثوري المناهض للاستعمار جعلها تتحفظ على أي علاقة قد تعيد إنتاج التبعية. ومع وصول تبون، أصبحت القطيعة أكثر وضوحًا:

  • تفكيك شبكات النفوذ الفرنسي داخل الدوائر السياسية والاقتصادية.
  • فرض قواعد جديدة على الاستثمارات الأجنبية، تشترط نقل التكنولوجيا وتوطين الإنتاج.
  • تعزيز التعاون مع قوى أخرى مثل الصين، روسيا، تركيا، ودول الخليج.

هذه الخطوات أربكت باريس، التي وجدت نفسها أمام دولة كبرى في شمال إفريقيا، ترفض الخضوع لمنطق "فرانس-أفريك"، وتتبنى سياسة خارجية مستقلة.

2. المغرب: حليف تاريخي تحت الوصاية الفرنسية

على عكس الجزائر، بقي المغرب حليفًا وفيًا لفرنسا، حيث ربطت بينهما اتفاقيات استراتيجية منذ استقلال المملكة في 1956، أبرزها اتفاقية "لا سيل سان كلود"، التي يُقال إنها تمددت حتى عام 2056.

أ. اتفاقيات تؤسس للتبعية

هذه الاتفاقيات غير المعروفة على نطاق واسع، رسّخت التبعية المغربية لفرنسا:

  • منح باريس نفوذًا واسعًا على القطاعات الحيوية: البنوك، الاتصالات، الطاقة.
  • ضمان الولاء السياسي من خلال دعم العرش العلوي.
  • تكريس التعاون العسكري والأمني، بما يخدم المصالح الفرنسية في المنطقة.

ب. اقتصاد يخدم المصالح الفرنسية

المغرب يُعدّ اليوم منصة اقتصادية للشركات الفرنسية، حيث تسيطر هذه الأخيرة على قطاعات استراتيجية، دون أن تُثمر هذه الاستثمارات عن نهضة صناعية مغربية:

  • الشركات الفرنسية تدير أهم البنوك والمؤسسات المالية.
  • حضور قوي في قطاعات النقل، الاتصالات، والطاقة.
  • مشاريع البنية التحتية الكبرى مثل الموانئ والطرق، تُنفذها شركات فرنسية.

رغم هذا الحضور الكثيف، لم يتحول المغرب إلى قوة اقتصادية إقليمية، بل ظلّ رهينة اقتصاد خدماتي، يعتمد على السياحة والفلاحة، ويعاني من هشاشة التصنيع.

3. تقارب فرنسا مع المغرب: ضغط على الجزائر أم تحالف طبيعي؟

بعد تضييق الجزائر هامش النفوذ الفرنسي، سعت باريس إلى تعويض خسائرها عبر تعزيز شراكتها مع المغرب. غير أن هذا التقارب لم يكن خيارًا استراتيجيًا بقدر ما كان محاولة للضغط على الجزائر.

أ. الصحراء الغربية: سلاح سياسي

أحد أبرز ملفات التوتر بين الجزائر وفرنسا هو قضية الصحراء الغربية. في السنوات الأخيرة، بدا أن باريس تميل بشكل أوضح إلى دعم الرباط:

  • دعم غير مشروط لموقف المغرب بشأن الحكم الذاتي.
  • معارضة أي محاولة لتوسيع صلاحيات بعثة الأمم المتحدة "مينورسو".
  • عرقلة الجهود الجزائرية داخل الاتحاد الأوروبي بشأن حقوق الشعب الصحراوي.

ب. إضعاف الدور الإقليمي للجزائر

تحاول فرنسا عبر المغرب لعب دور إقليمي منافس للجزائر، خاصة في منطقة الساحل، حيث تسعى باريس لفرض الرباط كشريك أمني بديل عن الجزائر، بعد أن توترت علاقاتها مع السلطات الجزائرية.

ج. الابتزاز الاقتصادي

بالترويج للمغرب كوجهة استثمارية مستقرة، تأمل فرنسا أن يُعيد ذلك الضغط على الجزائر، لإجبارها على تقديم تسهيلات أكبر للشركات الفرنسية، التي تقلص حضورها في الجزائر لصالح منافسين كالصين وتركيا.

4. ثبات الموقف الجزائري: فشل سياسة الابتزاز

على الرغم من التحركات الفرنسية، لم تنجح باريس في زحزحة الجزائر عن مواقفها السيادية:

  • رفض أي مساومة في ملف الصحراء الغربية، باعتباره قضية تصفية استعمار.
  • استمرار سياسة "رؤية 51/49%" في الاستثمارات، لضمان سيطرة الدولة الجزائرية.
  • تعميق التعاون مع قوى كبرى مثل الصين وروسيا، ما ضاعف هامش المناورة الجزائري.

5. استمرارية تاريخية: المغرب خيار فرنسا الدائم

ما يُفهم من هذا السياق هو أن التقارب الفرنسي-المغربي ليس مجرد رد فعل على الموقف الجزائري، بل هو جزء من توجه استراتيجي قديم:

  • خلال حرب الرمال (1963)، وقفت فرنسا إلى جانب المغرب ضد الجزائر الفتية.
  • في نزاع الصحراء الغربية، كانت باريس داعمًا دائمًا للرباط.
  • استثمارات فرنسا الكبرى بعد الاستقلال تركزت في المغرب، فيما تعاملت مع الجزائر كمصدر للطاقة، وليس كشريك صناعي.

خاتمة: نهاية سياسة الوصاية

السياسة الفرنسية تجاه المغرب والجزائر تعكس استمرارًا لنفس النهج النيو-استعماري. ومع ذلك، فإن هذا النموذج لم يعد فعالًا:

  • الجزائر تكرس نفسها كقوة إقليمية مستقلة ذات سياسة سيادية.
  • المغرب، رغم الدعم الفرنسي، لم يتحول إلى قطب إقليمي، بسبب تبعيته الاقتصادية.
  • فرنسا تفقد تدريجيًا نفوذها في شمال إفريقيا، نتيجة فشلها في الانتقال من منطق الهيمنة إلى منطق الشراكة المتوازنة.

إذا أرادت باريس الحفاظ على علاقات متينة في المنطقة، فسيكون عليها التخلي عن إرث "فرانس-أفريك"، لصالح مقاربة تحترم سيادة الدول ومصالح شعوبها. خلاف ذلك، ستجد نفسها في عزلة متزايدة أمام صعود قوى جديدة على الساحة الإفريقية.


بــلقـــاســم مــربــاح

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

رسالة مفتوحة إلى رئيس الجمهورية السيد عبد المجيد تبون

سيدي الرئيس، أتمنى أن تصلكم هذه الرسالة و أنتم بصحة جيدة. أكتب إليكم اليوم بقلب مثقل لأعبر عن قلقي العميق واستيائي لوجود أكثر من 1.2 مليون مغربي في أرض الجزائر الطاهرة. كمواطن مسؤول ومعني ، أشعر أنه من واجبي أن أوجه انتباهكم إلى هذا الأمر. أود أولاً أن ألفت انتباهكم إلى الروابط بين أجهزة المخابرات الإسرائيلية والمغرب. لقد تم الكشف أن الموساد يجند بشكل كبير في الجالية المغربية في فرنسا. هل لدينا ضمانة أن الكيان الصهيوني لا يفعل الشيء نفسه في الجزائر؟ هذه القضية مصدر كرب وإحباط لمواطني بلادنا الذين يفقدون الأمل في التمثيلية الوطنية التي يفترض أن تدافع عن المصلحة العليا للوطن. لماذا يجب أن نبقي على أرضنا رعايا دولة معادية؟ لماذا لا نعيد هؤلاء إلى وطنهم لتفاقم الأزمة الاجتماعية والاقتصادية لبلد يتآمر ضد مصالحنا ويغرق بلدنا بأطنان من المخدرات؟ لماذا يجب أن نتسامح مع وجود اليوتيوبرز المغاربة في الجزائر الذين يسخرون يوميا من الشعب الجزائري؟ نعتقد أن الجزائر يجب أن تقطع العلاقات القنصلية مع المغرب في أسرع وقت ممكن ، لأن الغالبية العظمى من الشعب المغربي يشتركون في نفس الأطروحات التوسعية مثل ن...

دعم فرنسي للخطة المغربية للحكم الذاتي للصحراء الغربية

 أعربت الجزائر، يوم الخميس، عن "استنكارها الشديد" للقرار الفرنسي الأخير بدعم خطة الحكم الذاتي المغربية للصحراء الغربية. وقد وصف هذا الموقف بأنه "غير متوقع، وغير مناسب، وغير مجدي" من قبل وزارة الخارجية الجزائرية. وقد أكدت الحكومة الجزائرية بوضوح أنها ستستخلص جميع العواقب المترتبة عن هذا القرار، محملة الحكومة الفرنسية المسؤولية الكاملة. وقد أثار الاعتراف الفرنسي بخطة الحكم الذاتي المغربية، التي تُعتبر إضفاءً للشرعية على السيادة المتنازع عليها للمغرب على الصحراء الغربية، رد فعل حاد في الجزائر. ونددت وزارة الخارجية الجزائرية بهذا القرار باعتباره عملاً داعماً "لفعل استعماري"، يتعارض مع مبادئ إنهاء الاستعمار التي تدعمها المجتمع الدولي. ويعتبر هذا الموقف أكثر إثارة للجدل بالنظر إلى أنه صادر عن عضو دائم في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، الذي من المفترض أن يحترم ويعزز الشرعية الدولية. وتعتبر الجزائر هذا القرار عائقاً أمام الحل السلمي لقضية الصحراء الغربية، مشيرة إلى أن خطة الحكم الذاتي المغربية قد أدت إلى مأزق مستمر منذ أكثر من سبعة عشر عاماً. وأعربت الوزارة عن أ...

عبد العزيز رحابي يحلل اتفاقية الشراكة مع الاتحاد الأوروبي

 في مقابلة مع TSA Algérie ، تحدث عبد العزيز رحابي، الدبلوماسي والوزير الجزائري السابق، عن توقيع اتفاقية الشراكة بين الجزائر والاتحاد الأوروبي (EU)، ودور الدبلوماسية الجزائرية وتأثير الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة. النقاط الرئيسية في المقابلة مشاكل اتفاقية الشراكة الجزائر-الاتحاد الأوروبي : انتقد رحابي اتفاقية الشراكة موضحًا أنها لم تحقق الأثر المتوقع للجزائر. وأعرب عن أسفه لعدم وجود حوار حقيقي بين الجزائر وأوروبا حول القضايا الحيوية مثل الأمن الإقليمي، الإرهاب، الهجرة والتهديدات الاقتصادية والاستراتيجية. شدد على أن الجزائر خسرت ما يقرب من 16 مليار دولار نتيجة التفكيك التدريجي للتعريفات الجمركية المنصوص عليه في الاتفاقية، في حين أن الاستثمارات الأوروبية في الجزائر ظلت ضعيفة. دور الحكم الرشيد والدبلوماسية : أكد رحابي على أهمية الحكم الرشيد لتجنب توقيع الجزائر على اتفاقيات تجارية غير مواتية. انتقد الإدارة الجزائرية لافتقارها للإصلاحات واعتمادها على اقتصاد الريع، مما يعرقل جهود التحديث والتكيف مع التغيرات الاقتصادية العالمية. مفاوضات الاتفاقية : أشار رحابي إلى أن فكرة التعاون الأورو...