التخطي إلى المحتوى الرئيسي

وثيقة سرية تعيد الحياة للرجل اللغز محمد بودية

 حتى لا يصبح الموت آلة محو لأشخاص قدموا حياتهم قرباناً لقناعاتهم الفردية والجماعية، وحتى لا يكون النسيان رفيق درب من ناضلوا من أجل القضايا العادلة وواجهوا الموت بصدر عار، عاد الروائي والكاتب الجزائري الكبير واسيني لعرج  في مقالة مطولة نشرت بموقع "القدس العربي" إلى التذكير بأحد الوجوه الثقافية والفنية والنضالية في الجزائر محمد بودية محاولا نفض الغبار عن هذا المناضل الذي نسيه الكثيرين من الجزائريين و العرب، وكتب عنه " كان مناضلاً شمولياً وعالمياً من سلالة تشي غيفارا، في زمانه على الأقل، لكنه كان فناناً كبيراً اشتغل في المسرح تمثيلاً وإدارة، وتسييراً إذ كان مديراً لمسرح الغرب في باريس، للمسرح الوطني بعد الاستقلال. عاش في المنافي حتى يوم اغتياله في باريس من طرف الموساد بتفخيخ سيارته بنفس طريقة اغتيال الكاتب الفلسطيني غسان كنفاني."

العودة إلى الحديث عن هذا المناضل الفذ كان بسبب وثيقة نشرها المكتب الفيدرالي بوزارة خارجية سويسرا وعليها الختم المشمع «سري»، تحت رقم 39519. وعنوان الملف "الإرهاب الفلسطيني: جنيف، فيينا، باريس كنقاط ارتكاز"، حيث تتبعت هذه الوثيقة النادرة تحركات المناضل الجزائري محمد بودية عبر أوروبا، ودوره في تنشيط الكثير من الخلايا النضالية لصالح فلسطين حتى يوم اغتياله.


و يتساءل واسيني في مقاله من هو هذا الرجل ذو الأوجه المتعددة كما يصفه التقرير؟ صاحب المائة وجه ووجه، و يعرف القارئ به فهو بودية علي (وليس محمد، كما تقول الوثيقة السرية)، ولد في 24 فيفري 1932. تزوج في جانفي من 1968 إلى 1971. مدير "مسرح الغرب الباريسي" في باريس، يقيم في 29 شارع بوانود، الطابق الرابع، مواطن من جنسية جزائرية. أثناء تنقلاته بين فيينا وجنيف، اختار أسماء مستعارة كثيرة: بوايي موريس أندريس مولود في 20 سبتمبر 1931 في افينيون. بيرتان رولان، ولد في 16 جانفي 1931، وفي جوازه الفرنسي فقد ولد في 16 نوفمير 1930، تحت رقم 387، بتاريخ 16 جويلية 1968. إضافة إلى أسماء كثيرة مثل بيرتان بيير، روبيرت، رودريغ، روجي، سعيد بن أحمد، ولد في 1935 في المغرب رقم الجواز 12479/737، أبو خليل، أبو خالد، بيتانشان، كان اسمه بين رفاقه السويسريين المناصرين للقضية الفلسطينية: رودريغ بيرتان".  ويشير الملف كما يورد واسيني إلى تكوينه في الجزائر، فبعد المدرسة الابتدائية، التحق بودية بالمركز الجهوي للفنون الدرامية في العاصمة الجزائر. ثم بين 1953 إلى 1955 التحق بالخدمة العسكرية في العاصمة ثم في ديجون. ثم اشتغل ممثلاً في مؤسسة البث الإذاعي والتلفزيوني الفرنسية، في باريس. وكان ينشط أيضاً مع فرقة مسرحية جزائرية في الضاحية الباريسية.

 

الفنان المقاتل .. بين ثورة التحرير و القضية الفلسطينية

 

تركز الوثيقة أيضاً على نشاط بودية السياسي في الحركة الوطنية الجزائرية. حيث التحق بالثورة في 1957 ليصبح مسؤولاً عن الخلية الباريسية قبل أن يُبعث إلى مرسيليا وكان تحت قيادته أكثر من 3000 مناضل. كان يجمع الأموال للثورة الجزائرية، ورأس حربة في كل العمليات التي تحتاج إلى جرأة، لكنه أوقف في 9 سبتمبر 1958 من طرف الشرطة الفرنسية التي وجدت في بيته أسلحة. حكم عليه بـ 20 سنة سجناً مرفقة بالأشغال الشاقة، بتهمة الخيانة والتواطؤ مع قوى معادية، لكنه تمكن من الهرب في 10 سبتمبر 1961. عيّن بعد الاستقلال مباشرة مديراً للمسرح الوطني في سنة 1963، قبل أن يُكلِّفه انقلاب العقيد هواري بومدين ضد ابن بلا في 1965، السجن والمنافي.

و يشير واسيني الى ان بودية كان من أهم الذين بادروا بإنشاء المسرح الوطني وأعطوه حضوراً حقيقياً في الحياة الثقافية». بودية كان من أنصار مسرح وطني ملتزم، يلعب دوراً تكوينياً وحيوياً مثلما هو الحال في الدول الاشتراكية، وقد صبغ هذا التوجه المسرح الوطني في عمومه بهذه الصفة السياسية التي لم يتخلص منها إلا في السنوات الأخيرة. فقد ظل مناصراً لكل حركات التحرر الوطن، النضال الفلسطيني على وجه الخصوص. كان صاحب المبادرة الرمزية التي قرر بموجبها تخصيص مداخيل الموسم الصيفي للمسرح عام 1964، دعماً لكفاح الشعب الفلسطيني.

وبدأت حسب واسيني علاقة محمد بودية المباشرة والجدية بالقضية الفلسطينية في كوبا، خلال لقائه بوديع حداد، المسؤول العسكري للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين؛ وبعد هذا اللقاء وضع خبرته النضالية في خدمة النضال الفلسطيني، ثم عاد إلى باريس في مطلع السبعينيات بصفته قائداً للعمليات الخاصة للجبهة الشعبية في أوروبا، متخذاً اسماً حركياً جديداً: أبو ضياء. أول عمل قام به هو التنسيق مع الجماعات اليسارية الأوروبية؛ فقد كان المدبر الرئيسي لجميع عمليات الجبهة الشعبية في أوروبا في مطلع السبعينيات.

 

بودية والموساد وعملية ميونيخ

 

يقول واسيني أنه بعد الخسائر الفادحة، أمرت غولدا مئير، رئيسة الحكومة وقتها، بالانتقام من مرتكبي عملية ميونيخ. شُكلت لجنة وزراء مكونة من غولدا مايير، ووزير الدفاع موشيه ديان، ووزير الخارجية يغئال ألون، وإسرائيل جليلي، وهو وزير بلا حقيبة والممسك بخيوط اللعبة، وأهارون ياريف ورحبعام زئيفي، كمستشارين لرئيسة الحكومة للاستخبارات، ورئيس الموساد تسفيكا زمير، وكان القرار النهائي هو الحكم بالإعدام ضد الذين كانوا وراء عملية ميونيخ. وتم تجميع وتجنيد أفضل ضباط المخابرات العسكريين، ومنهم شموليك غورين، وباروخ كوهين، وتصادوق أوفير، ورافي سيتون، وغايزي تسفرير وآخرون. كانت القيادة تضم مايك هراري رئيس الوحدة التنفيذية، وشموليك غورين رئيس «كيشت»، وحدة تجميع الاستخبارات، وناحوم أدموني رئيس «تفيل»، المسؤولة عن العلاقات بالجهات الاستخبارية الأجنبية. لم يكن الأمر ثانوياً، لكن جهز له كما يجب ومن طرف دولة. لنقرأ ما قاله إيتان هابر، رئيس ديوان رابين سابقاً في جريدة "يديعوت أحرونوت" بتاريخ 3-10-2005: " كان أحد أفراد جبهة تحرير الجزائر. سُجن في فرنسا لثلاث سنين، وأدار بعد إطلاق سراحه مسرحاً صغيراً في باريس. وكان رجل نساء. في 1972 تطوع بودية لمساعدة الفلسطينيين، وأرسل إلى إسرائيل جماعة مخربين: ايفلن بارج، التي كانت المسؤولة عن صندوق مسرحه وعشيقته خارج ساعات العمل، والأختين ناديا ومارلين برادلي، وزوجين مسنين من الناس الغامضين. عندما وصلوا إلى المطار، لم يوجد في حقائبهم أي شيء يثير الشبهة: فقد وجدت ملابس، وأحذية، وأدوات استحمام وقطن. لكن المحققين اكتشفوا أن الملابس والقطن، كلها قد تغلغلت فيهما مادة متفجرة سائلة جُففت. جلب زوجا الشيوخ معهما مُفجِّرات في مستقبِل راديو، وكان وصلها بالملابس المُشربة بالمادة المتفجرة سينتج عدداً من القنابل. لقد كانوا ينوون وضعها في فنادق في تل أبيب. في التحقيق معهم، قاد المعتقلون المحققين إلى بودية".

يشير واسيني إلى أن بودية أدرك أنهم يبحثون عنه، وعليه أن يغير من عاداته. لقد بدّل كمدير للمسرح الهويات والملابس والعناوين على عجل. كان تتبعه صعباً جداً. عندما كانوا على شفا اليأس، قرر الموساد ترصد خطواته في الممرات تحت الأرض للمشاة… وقد حدث ما لا يُصدق: لقد وُجد. ومنذ تلك اللحظة، لم يتركوه. بعد مضي بضعة أيام استيقظ بودية عند إحدى صديقاته في باريس. أكل فطوره، وشرب القهوة، ولبس، ونزل إلى سيارته للذهاب إلى مهامه. وعلى الرغم من حرصه، فقد وصلته يد القتلة بزرع لغم تحت مقعد سيارته، الرونو 16 الزرقاء اللون التي كان يملكها، في صباح 28 جوان 1973 أمام المركز من الجامعي لشارع فوسي برنار في باريس. و يختم واسيني مقاله بالسؤال :"من يتذكر اليوم هذا البطل والفنان الذي منح حياته كلها خدمة للقضية الفلسطينية؟"

تعليقات

  1. هذا البطل الذي دوخ الموصاد والشين بث يجب ان ينجز فيلم عليه، تتفرجه كل اللاجيال, حتى يعلموا ان الجزائر كان لها رجال قادرين على الظرب في عمق العدو.

    ردحذف

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

رسالة مفتوحة إلى رئيس الجمهورية السيد عبد المجيد تبون

 سيدي الرئيس، أتمنى أن تصلكم هذه الرسالة و أنتم بصحة جيدة. أكتب إليكم اليوم بقلب مثقل لأعبر عن قلقي العميق واستيائي لوجود أكثر من 1.2 مليون مغربي في أرض الجزائر الطاهرة. كمواطن مسؤول ومعني ، أشعر أنه من واجبي أن أوجه انتباهكم إلى هذا الأمر. أود أولاً أن ألفت انتباهكم إلى الروابط بين أجهزة المخابرات الإسرائيلية والمغرب.  لقد تم الكشف أن الموساد يجند بشكل كبير في الجالية المغربية في فرنسا. هل لدينا ضمانة أن الكيان الصهيوني لا يفعل الشيء نفسه في الجزائر؟ هذه القضية مصدر كرب وإحباط لمواطني بلادنا الذين يفقدون الأمل في التمثيلية الوطنية التي يفترض أن تدافع عن المصلحة العليا للوطن. لماذا يجب أن نبقي على أرضنا رعايا دولة معادية؟ لماذا لا نعيد هؤلاء إلى وطنهم لتفاقم الأزمة الاجتماعية والاقتصادية لبلد يتآمر ضد مصالحنا ويغرق بلدنا بأطنان من المخدرات؟ لماذا يجب أن نتسامح مع وجود اليوتيوبرز المغاربة في الجزائر الذين يسخرون يوميا من الشعب الجزائري؟ لماذا لا تفرض الدولة الجزائرية تأشيرة دخول على هذا البلد العدو لمراقبة التدفقات السكانية بشكل أفضل بين الجزائر والمغرب؟ نعتقد أن الجزائر يجب أن تقطع الع

ما هي المشاكل بين الجزائر والمغرب ؟ لماذا لن يتم استعادة العلاقات مع المغرب ؟ ولماذا لا تقبل الجزائر أي وساطة مع المغرب ؟

في 24 أغسطس 2021، اتخذت الجزائر قرارًا تاريخيًا بقطع علاقاتها الدبلوماسية مع المغرب، الذي واصل القيام بأعمال عدائية وغير ودية وخبيثة ضد بلدنا منذ استقلال الجزائر. في هذا المقال لن نتطرق للخيانات المغربية العديدة والممتدة عبر الازمنة و كذلك التي طالت الجزائر قبل الاستقلال (-اختطاف طائرة جبهة التحرير الوطني - خيانة الأمير عبد القادر - قصف مآوي المجاهدين الجزائريين من قاعدة مراكش الجوية - مشاركة المغاربة في مجازر سطيف، قالمة وخراطة عام 1945. الخ)، لأن الموضوع يستحق عدة مقالات ولأن الأفعال الكيدية عديدة، ولا يتسع المجال لذكرها، ومنذ وصول السلالة العلوية عام 1666 في سلطنة مراكش وفاس وهو الاسم الحقيقي للمملكة، قبل أن يقرر الحسن الثاني تغيير اسمها الرسمي بالاستيلاء دون وجه حق، عام1957(بينما كانت الجزائر تحارب الاستدمار الفرنسي) على اسم منطقة شمال إفريقيا: "المغرب" والذي يشمل كل من تونس و ليبيا والجزائر وموريتانيا والصحراء الغربية وسلطنة فاس ومراكش. 1ــ بماذا تتهم الجزائر المغرب؟ للإجابة على هذا السؤال ودون الخوض فى الخيانات المغربية العديدة قبل استقلال الجزائر، فإن الوثيقة الأكثر ا

وكالة المخابرات المركزية ترفع السرية عن وثيقة تسلط الضوء على الدوافع الحقيقية للمغرب في حرب الرمال عام 1963

  رفعت وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية مؤخرًا السرية عن وثيقة مؤرخة في 23 أغسطس 1957، وهي وثيقة تفصّل المناطق المنتجة للنفط في الجزائر وتحدد الخطط الفرنسية للجزائر ما بعد الاستقلال. تحتوي هذه الوثيقة على المعلومات التالية: كانت فرنسا ترغب بالاحتفاظ بالصحراء الجزائرية بأي ثمن، وكانت تخطط لتقسيمها إلى ولاياتان. لم تكن فرنسا تنوي مد أنابيب الغاز أو النفط إلى شمال الجزائر لتجنب التعامل في المستقبل مع الجزائر المستقلة، ولهذا السبب كانت فرنسا تناقش إسبانيا إمكانية تمريرالنفط والغاز الجزائري إلى الصحراء الغربية التي كانت تسيطر عليها إسبانيا. وكان الإسبان متحمسين للغاية بل وقدموا ضمانات للفرنسيين، مؤكدين  نية إسبانيا في عدم مغادرة الصحراء الغربية. تشير الوثيقة أيضاً إلى مشاكل حدودية مع ليبيا، التي كانت لديها مخططات إقليمية على حقول زرزايتين وإدجيليه وتيغنتورين. ويُقال إن فرنسا قدمت رشوة لرئيس الوزراء الليبي في ذلك الوقت، بن حليم، من أجل تسوية قضية الحدود بشكل نهائي.    المثير للاهتمام في وثيقة وكالة المخابرات المركزية الأمريكية هذه هو أن المناطق الحاملة للنفط في جنوب غرب الجزائر تتطابق بش