تعيش فرنسا هذه الأيام على وقع زوبعة سياسية وإعلامية عنيفة، سببها مواقف نائب “فرنسا الأبيّة” سباستيان ديلوقو، الذي تجرأ على كسر التوافق المريب داخل الطبقة السياسية الفرنسية حول قضية الصحراء الغربية، ورفض الاصطفاف خلف السردية المغربية الرسمية التي تجد عادة آذاناً صاغية في باريس، حتى داخل أوساط من يُفترض أنهم تقدميون، مثل جان لوك ميلانشون نفسه.
وسط حالة من الغضب الرسمي في باريس، وبُحّة أصوات الصحافة الفرنسية المُوجّهة، المتحاملة والمملوكة لدوائر المال المتحالفة مع اليمين المتطرف، يُشنّ هجوم شرس على النائب ديلوقو، بسبب زيارته إلى الجزائر، وتصريحاته العلنية التي جاءت في سياق يتحدى التوجه العام للسياسة الفرنسية في المنطقة المغاربية.
شجاعة ديلوقو في وجه نفاق ميلانشون
إن ما يميز موقف ديلوقو في زيارته إلى الجزائر، هو إعلانه الصريح دعمه لحق الشعب الصحراوي في تقرير مصيره، وتمسكه بشرعية نضاله التحرري، بما يتماشى مع القانون الدولي وقرارات الأمم المتحدة. موقفٌ يكشف النفاق العميق داخل تيار “فرنسا الأبيّة” ذاته، الذي يتزعمه جان لوك ميلانشون، والذي ما فتئ يغازل النظام المغربي ويتبنى مقاربته بخصوص الصحراء، في تجاوز سافر لمبادئه المعلنة عن مناصرة الشعوب المستضعفة ورفض الاستعمار.
ديلوقو اختار أن ينأى بنفسه عن هذا المسار المتخاذل، وفضّل الاصطفاف إلى جانب قيم الحق والعدالة التاريخية، ولو كلّفه ذلك العزلة داخل حزبه وخصومة الإعلام الموجه. وبهذا، يظهر كنموذج نادر في الساحة السياسية الفرنسية، حيث يندر أن نجد نائبًا يتجرأ على مناقشة السياسات الفرنسية في مستعمراتها السابقة، أو الدفاع عن الموقف الجزائري في قضية الصحراء، دون أن يُوصم بالخيانة أو يُلاحَق بتهم “الولاء الأجنبي”.
الإعلام الفرنسي في هستيريا جماعية
الهجوم الإعلامي على ديلوقو كان متوقعًا. فقد اعتادت الصحافة الفرنسية، المسيطَر عليها من طرف أصحاب رؤوس الأموال المتحالفين مع أقصى اليمين، أن تصفّي حساباتها مع كل من يخرج عن الصف. وقد استغلت هذه المنابر إعلان حزب “فرنسا الأبيّة” “تبرّؤه” من تصريحات ديلوقو لتشن حملة ضده، وتقدمه كـ”مارق”، دون حتى أن تحاول فتح نقاش عقلاني حول مضمون تصريحاته.
لكن خلف هذا التجييش الإعلامي، تكمن حقيقة محرجة للنظام الفرنسي: فشل ذريع في محاولاته الضغط على الجزائر من خلال ملف الجالية، أو عبر قضية المعتقلَين الفرنسيَين المدانَين بالتجسس، بوعلام صنصال وكريستوف غليز. والسبب الحقيقي في السعار الفرنسي هو أن الجزائر لم ترضخ، وأن نائبًا فرنسيًا تجرأ على قول ما لا يُقال في باريس.
الجزائر… موقف مبدئي يربك باريس
وجود ديلوقو في الجزائر، ومشاركته في احتفالات الخامس من يوليو، ليس مجرد إجراء بروتوكولي. هو موقف سياسي بامتياز، يحمل دلالات قوية. ففي وقت تُمعن فيه فرنسا الرسمية في محاولات فرض وصايتها على الجزائر، وابتزازها إعلاميًا وسياسيًا، يأتي هذا الموقف من نائب فرنسي ليؤكد أن هناك من في فرنسا ما زال يملك جرأة الاعتراف بأخطاء بلاده، والانتصار لكرامة الشعوب، ولو كلّفه ذلك ثمنًا سياسيًا باهظًا.
إن الجزائر، التي واجهت الاستعمار الفرنسي بإصرار لا يلين، لا يمكن أن تُرهبها حملات التشويه، ولا تهديدات باريس الخفية. وديلوقو، بتمسكه بمبادئه، إنما يُكرّم نفسه، قبل أن يُكرّم البلد الذي زاره.
حين يصبح المبدأ نشازًا في جمهورية الانتهازية
في فرنسا اليوم، أصبحت المواقف المبدئية تُعدّ نشازًا، خاصة إن تعلق الأمر بمستعمراتها السابقة. وفي الوقت الذي يركب فيه الجميع موجة العداء للجزائر، ويتملقون النظام المغربي، يظهر صوت مثل ديلوقو، ليعيد بعض الاعتبار للفكرة الأصلية للسياسة: الدفاع عن الحق، لا عن المصالح فقط.
إن شجاعة ديلوقو ليست مجرد استثناء، بل صفعة أخلاقية لطبقة سياسية فرنسية فقدت بوصلتها، من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار. وفي صموده أمام العاصفة، تذكير بأن القضية الصحراوية، وإن غابت عن أولويات باريس، ما تزال حية في ضمائر الأحرار، من الجزائر إلى أقصى الضفة الشمالية للمتوسط.
في زمن يهيمن فيه النفاق والانتهازية، تظهر مواقف مثل تلك التي عبّر عنها سباستيان ديلوقو كأنها أضواء نادرة في عتمة السياسة الفرنسية. لعلها لا تغيّر موازين القوى، لكنها تؤكد أن الحقيقة، وإن كانت وحيدة، تملك من القوة ما يجعلها قادرة على الإرباك، والمقاومة، وحتى الانتصار.
✍️ بلقاسم مرباح
تعليقات
إرسال تعليق