التخطي إلى المحتوى الرئيسي

الأزمة الدبلوماسية بين مالي والجزائر: ما وراء الطائرة المسيّرة، الرهانات الجيوستراتيجية لخط أنابيب غاز محل أطماع

 لم تعد الأزمة الدبلوماسية الأخيرة بين الجزائر ومالي مجرد خلاف على المجال الجوي أو حادثة إسقاط طائرة مسيّرة، بل باتت تكشف عن صراع جيوسياسي أعمق، محوره السيطرة على مستقبل الطاقة في منطقة الساحل وغرب إفريقيا، في ظل التنافس بين مشروع أنبوب الغاز العابر للصحراء (نيجيريا – النيجر – الجزائر) ومشروع أنبوب الغاز النيجيري – المغربي.

أزمة تتجاوز الحدود التقليدية

في مطلع أبريل 2025، أعلنت الجزائر عن إسقاط طائرة مسيّرة تابعة للجيش المالي، بدعوى انتهاكها المتكرر للمجال الجوي الجزائري. وحسب بيان وزارة الخارجية الجزائرية، فإن هذه الحادثة ليست الأولى، بل الثالثة منذ أغسطس 2024، مؤكدة امتلاكها للأدلة التقنية والرادارية التي تثبت صحة موقفها.


وردت باماكو باتهامات غير مسبوقة للجزائر بالتواطؤ مع جماعات إرهابية، في خطوة اعتبرتها الجزائر "سخيفة وغير مسؤولة"، مشيرة إلى أن النظام المالي الانتقالي – الناتج عن انقلاب عسكري – يسعى من خلال هذه الاتهامات إلى صرف الانتباه عن أزماته الداخلية وفشله السياسي.

لكن وراء هذه الاتهامات، تظهر خلفية أعمق تتعلق بصراع النفوذ على مشاريع الطاقة العملاقة، وعلى رأسها مشروع أنبوب الغاز العابر للصحراء.

مشروع أنبوب الغاز العابر للصحراء: خيار استراتيجي

مشروع أنبوب الغاز العابر للصحراء (TSGP) يمتد لأكثر من 4,000 كيلومتر، ويهدف إلى نقل الغاز النيجيري نحو أوروبا عبر النيجر والجزائر. ويكتسب المشروع أهمية متزايدة في ظل سعي أوروبا لتنويع مصادرها من الطاقة، بعيداً عن الغاز الروسي.

التعاون بين الجزائر والنيجر حول هذا المشروع يشهد تسارعاً واضحاً، وسط توقيع اتفاقيات متعددة وتنظيم لقاءات تقنية، ما يجعل من محور الجزائر – نيامي ركيزة جديدة في موازين القوى الإقليمية.

ورغم انضمام النيجر إلى تحالف دول الساحل (AES) الذي يضم أيضاً مالي وبوركينا فاسو، إلا أن نيامي فضّلت تعميق شراكتها مع الجزائر، في مؤشر على تباينات داخلية في المواقف داخل هذا التحالف.

أنبوب الغاز النيجيري – المغربي: مشروع ضخم ولكن...

في المقابل، يسوّق المغرب لمشروع بديل لأنبوب الغاز، يمتد لأكثر من 6,000 كيلومتر على طول الساحل الأطلسي، ويشمل 13 دولة إفريقية. ويهدف المشروع إلى تصدير الغاز النيجيري إلى أوروبا عبر المغرب.

لكن المشروع يواجه صعوبات فنية واقتصادية وسياسية جسيمة:

  • من المستحيل عملياً مرور الأنبوب عبر الصحراء الغربية، التي تعترف بها نيجيريا كدولة مستقلة (الجمهورية الصحراوية).

  • كلفة المشروع تبلغ حوالي 50 مليار دولار، ولم يُعرف بعد من سيمولها، بينما لم يتمكن المغرب حتى الآن من توفير 100 مليون دولار فقط لإعداد دراسة الجدوى.

  • البلدان التي سيمر بها الأنبوب فقيرة وغير مستقرة سياسياً، مما يثير مخاوف جدية حول القدرة على حماية الأنبوب وتشغيله.

  • نسبة الغاز التي ستُستهلك كحقوق عبور للدول قد تصل إلى 91%، مما يجعل العائد على المشروع ضئيلاً جداً.

أصابع خارجية واتهامات بالتخريب

يرى بعض المحللين أن تصاعد العمليات الإرهابية في شمال نيجيريا – لاسيما منذ إعلان "بوكو حرام" ولاءها لتنظيم "داعش" في 2015 – جاء بالتزامن مع تحركات مغربية لإنشاء شراكة طاقية مع نيجيريا. ويُتهم المغرب، عبر ارتباطات مع جماعات مسلحة مثل "MUJAO"، بلعب دور في زعزعة استقرار المنطقة بهدف تعطيل مشروع الجزائر وتعزيز المشروع المغربي.

في هذا السياق، يُنظر إلى المغرب على أنه أداة للسياسة الفرنسية الجديدة في إفريقيا (فرانسافريك 2.0)، حيث يستمر النفوذ الفرنسي في القارة من خلال شركات مغربية مموّلة أساساً من رؤوس أموال فرنسية، في إطار شراكة ظاهرها "جنوب – جنوب"، وباطنها استمرار التبعية القديمة.

مشروع الجزائر: واقعية فنية واستقلال تمويلي

على عكس المشروع المغربي، يتميز مشروع TSGP بعدة عوامل تجعل منه أكثر جدوى:

  • يمر فقط عبر دولتين (النيجر والجزائر)، ما يقلل التكاليف والمخاطر.

  • حقوق المرور لا تتجاوز 14%، ما يعزز الجدوى الاقتصادية.

  • الجزائر تمتلك بنية تحتية متطورة وخبرة كبيرة في قطاع الغاز.

  • نيجيريا والجزائر قادرتان على تمويل المشروع ذاتياً.

  • أوروبا، خاصة ألمانيا وبولندا، أبدت اهتماماً ملموساً بالمشاركة في المشروع.

أمنياً، تم تحقيق انتصارات كبيرة ضد بوكو حرام شمال نيجيريا، فيما تسهم الجزائر وروسيا في دعم استقرار مالي. الجزائر تعهدت بضمان أمن الأنبوب داخل أراضي النيجر إلى حين تطوير القدرات المحلية.

خاتمة: ما وراء الغاز... صراع استقلال ومكانة

الأزمة بين مالي والجزائر ليست مجرد ردود فعل دبلوماسية على حادثة عسكرية. إنها جزء من معركة أوسع لإعادة رسم خرائط التحالفات والتأثير في منطقة استراتيجية غنية بالموارد وفقيرة بالاستقرار.

مشروع أنبوب الغاز العابر للصحراء لا يمثل فقط خياراً طاقوياً منطقياً، بل رمزاً لتكامل إفريقي قائم على السيادة والتعاون الحقيقي، بعيداً عن التدخلات الأجنبية. نجاح هذا المشروع يعني تغيير موازين القوى في غرب إفريقيا، وفتح الطريق نحو استقلال اقتصادي وسياسي حقيقي للقارة.

وفي حين يراهن البعض على مشاريع دعائية ضخمة بلا أساس واقعي، يبدو أن الجزائر ونيجيريا تسيران بخطى ثابتة نحو تحقيق حلم طاقي أفريقي... من الصحراء إلى المتوسط.


✍️ بلقاسم مرباح

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

نداء لطرد المغاربة المقيمين بشكل غير قانوني في الجزائر

وقع على العريضة إذا كنت توافق https://www.mesopinions.com/petition/politique/appel-solennel-expulsion-marocains-situation-irreguliere/232124   السيد الرئيس، أيها المواطنون الأعزاء، نحن نواجه وضعًا حرجًا يتطلب استجابة حازمة وحاسمة. إن وجود أكثر من 1.2 مليون من المواطنين المغاربة في وضع غير قانوني على أراضينا يشكل تهديدًا للأمن القومي، والاقتصاد، والتماسك الاجتماعي لبلدنا. يجب علينا أن نتحرك بعزم لحماية أمتنا وضمان مستقبل آمن ومزدهر لجميع الجزائريين. الأمن القومي في خطر تم الكشف عن وجود علاقات بين أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية والمغرب. وتشير التقارير إلى أن الموساد يقوم بتجنيد واسع النطاق في الجالية المغربية، لا سيما في فرنسا. لا يمكننا استبعاد إمكانية حدوث أنشطة مشابهة على أرضنا، مما يهدد أمننا القومي. كدولة ذات سيادة، لا يمكننا التسامح مع وجود أفراد يمكن أن يعرضوا أمننا واستقرارنا للخطر. التأثيرات الاقتصادية والاجتماعية تشكل تدفقات العملة الصعبة بشكل غير قانوني نحو تونس ليتم تحويلها إلى المغرب عبر البنوك المغربية هروبًا غير مقبول لرؤوس الأموال. بالإضافة إلى ذلك، فإن تورط بعض أعضاء ...

عبد العزيز رحابي يحلل اتفاقية الشراكة مع الاتحاد الأوروبي

 في مقابلة مع TSA Algérie ، تحدث عبد العزيز رحابي، الدبلوماسي والوزير الجزائري السابق، عن توقيع اتفاقية الشراكة بين الجزائر والاتحاد الأوروبي (EU)، ودور الدبلوماسية الجزائرية وتأثير الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة. النقاط الرئيسية في المقابلة مشاكل اتفاقية الشراكة الجزائر-الاتحاد الأوروبي : انتقد رحابي اتفاقية الشراكة موضحًا أنها لم تحقق الأثر المتوقع للجزائر. وأعرب عن أسفه لعدم وجود حوار حقيقي بين الجزائر وأوروبا حول القضايا الحيوية مثل الأمن الإقليمي، الإرهاب، الهجرة والتهديدات الاقتصادية والاستراتيجية. شدد على أن الجزائر خسرت ما يقرب من 16 مليار دولار نتيجة التفكيك التدريجي للتعريفات الجمركية المنصوص عليه في الاتفاقية، في حين أن الاستثمارات الأوروبية في الجزائر ظلت ضعيفة. دور الحكم الرشيد والدبلوماسية : أكد رحابي على أهمية الحكم الرشيد لتجنب توقيع الجزائر على اتفاقيات تجارية غير مواتية. انتقد الإدارة الجزائرية لافتقارها للإصلاحات واعتمادها على اقتصاد الريع، مما يعرقل جهود التحديث والتكيف مع التغيرات الاقتصادية العالمية. مفاوضات الاتفاقية : أشار رحابي إلى أن فكرة التعاون الأورو...

الطموحات التوسعية للمغرب خلال حرب التحرير الوطني: تحليل وثيقة من جهاز الاستخبارات الفرنسي لعام 1957

 تكشف وثيقة من جهاز الاستخبارات الفرنسي، مؤرخة في 16 ديسمبر 1957، عن الطموحات التوسعية للمغرب تجاه الجزائر في خضم حرب الاستقلال. تلقي هذه الوثيقة ضوءًا جديدًا على العلاقات المعقدة بين البلدين وتتناقض جزئيًا مع السرد التاريخي الذي يتم تدريسه في الجزائر، والذي يشير إلى دعم غير مشروط من المغرب للثورة الجزائرية. في النسخة الرسمية لتاريخ حرب التحرير الوطني، كما يتم تقديمها في المدارس الجزائرية، يُصوَّر المغرب، تحت حكم الملك محمد الخامس، كحليف قوي في النضال من أجل استقلال الجزائر. يبرز هذا السرد وحدة الشعبين المغربي والجزائري في كفاحهما ضد الاستعمار الفرنسي. ومن الصحيح أن الثوار الجزائريين رأوا في بداية الأمر أن نضالهم جزء من حركة تحرير مغاربية أوسع (تونس – الجزائر – المغرب). على سبيل المثال، هجوم شمال قسنطينة في أغسطس 1955، الذي تم تنفيذه ردًا على نفي السلطان المغربي إلى مدغشقر، يوضح هذه التضامن الإقليمي. ومع ذلك، كانت سنة 1956 نقطة تحول حاسمة في العلاقات بين الجزائر والمغرب. خلال هذه الفترة، حصل المغرب وتونس على استقلالهما بعد مفاوضات مباشرة مع فرنسا، تاركين الجزائر تواصل نضالها المسلح...