التخطي إلى المحتوى الرئيسي

إحياء السكك الحديدية في الجزائر: مشروع استراتيجي للنهوض الاقتصادي الشامل

في ضوء تدشين الرئيس الجزائري يوم 24 أبريل 2025 لأول مقطع رمزي بطول 100 كيلومتر (بشار-عبادلة) من الخط الحديدي الاستراتيجي بشار-تندوف-غار جبيلات، تأتي هذه المساهمة لتسلط الضوء على الأهمية الاستراتيجية الكبرى للبرنامج الجديد لتطوير السكك الحديدية في الجزائر، والذي يعيش لحظات مجده الكبرى، خاصة على الصعيد الاقتصادي.

مسار طويل من الانتكاسات إلى النهوض

منذ إطلاق المخطط الخماسي 2005-2008 لإعادة بعث شبكة السكك الحديدية، عرفت الجزائر انتكاسة مؤلمة بدءاً من 2014 نتيجة لانهيار أسعار النفط، مما أدى إلى تجميد المشاريع الكبرى وتفاقم سوء التسيير والفساد المالي. وقبل ذلك، أصيب البرنامج الطموح للثمانينيات بالشلل إثر الأزمة الاقتصادية لعام 1986.

غير أن الانطلاقة الجديدة منذ 2021/2022 جاءت في ظل إرادة سياسية قوية لتعويض الخسائر وإعادة بناء شبكة السكك الحديدية بوتيرة أسرع وأوسع وأعمق، تزامناً مع تحسن الظروف الاقتصادية المحلية والدولية، خصوصاً مع قانون المالية لسنة 2025.


أرقام قياسية ومشاريع عملاقة

بعد توقف امتد لعقدين، ارتفعت شبكة السكك الحديدية الجزائرية من 1769 كلم في 2008 إلى قرابة 5000 كلم مع نهاية 2024، مع طموح للوصول إلى 15.000 كلم مع حلول عام 2030.

وفي هذا السياق، يجري تنفيذ خمسة مشاريع كبرى تمثل العمود الفقري للنهضة الجديدة:

خط بشار-تندوف-غار جبيلات (950 كلم)

تم تدشين أول 100 كلم منه في أبريل 2025، ليكمل خط وهران-بشار (660 كلم). هذا الخط موجه بالأساس لنقل خام الحديد الغني من مناجم غار جبيلات (3.5 مليار طن)، مما سيوفر ابتداءً من 2027 إيرادات سنوية تصل إلى 10-14 مليار دولار، داعماً المجمعات الصناعية الكبرى مثل توسيالي أرزيو ومجمع بلارة وحديد الحجار بعنابة.

الخط الرابط بين الشمال والجنوب (الجزائر-إن ڤزام، حوالي 2500 كلم)

تم استلام 400 كلم حتى 2024 مع توجه نحو إكمال الامتداد إلى غرداية وتمنراست، مما يفتح آفاقاً لتصدير المنتجات الوطنية عبر الطريق العابر للصحراء إلى أفريقيا جنوب الصحراء.

خط عنابة-تبسة (422 كلم)

خط كهربائي مزدوج لنقل فوسفات جبل العنق لتغذية الصناعات التحويلية في تبسة، سوق أهراس، قالمة وسكيكدة، مما سيوفر للجزائر 2 مليار دولار سنوياً، مع استثمارات إجمالية بقيمة 7 مليارات دولار.

خط بشار-أدرار (577 كلم)

يدعم الحركية الاقتصادية والزراعية في ولاية أدرار الغنية بالصناعات النفطية ومشاريع الإنتاج الحيواني الضخمة بالشراكة مع قطر، بما في ذلك مشروع إنتاج 1.7 مليار لتر حليب سنوياً.

ربط وادي سوف بالسكك الحديدية

ثلاثة محاور لربط منطقة وادي سوف الزراعية الغنية بالأسواق الوطنية والدولية، لدعم تصدير المنتجات الزراعية.

نحو قطار حديث وصناعة وطنية

تحرص الجزائر على رفع سرعة القطارات إلى 220 كم/س مع كهربة الشبكة وتحديث نظم الأمان والاتصالات. وقد تم إقرار إنشاء صناعة وطنية للقطارات والمعدات بالتعاون مع الصين، عبر مصنع جديد بسيدي بلعباس بطاقة 2000 عربة سنوياً، بالإضافة إلى إعادة تأهيل مجمع عنابة الصناعي.

تسعى الجزائر لأن تصبح قطباً قارياً في تصنيع القطارات وعربات النقل، مستفيدة من استثمارات في ورشات صيانة مثل الخروب، دار البيضاء، حسين داي، والمحمدية، مع توسيع هذه الورشات إلى الهضاب العليا والجنوب الكبير.

تحديات التمويل والتنفيذ

رغم التحديات المالية، خصصت الدولة غلافاً مالياً ضخماً للبرنامج الجديد يبلغ 700 مليار دينار جزائري (حوالي 5.2 مليار دولار للفترة 2025-2026)، و8 مليارات دولار شاملة لجميع المكونات. تمويل هذه المشاريع يتم أساساً من الخزينة العمومية، فيما تمول الشركة الوطنية للنقل بالسكك الحديدية (SNTF) اقتناء العربات والمعدات من مواردها الخاصة.

رهان استراتيجي لتحقيق التنمية الشاملة

إن هذا البرنامج ليس مجرد مشروع نقل، بل يمثل رهاناً استراتيجياً لتنمية الاقتصاد الوطني، تنويع مصادر الدخل، تحقيق الأمن الغذائي والصناعي، وربط الجزائر بمحيطها الأفريقي.

لقد حان الوقت لتجاوز مرحلة استيراد القطارات والمعدات إلى بناء صناعة متكاملة قادرة على الإبداع والتصدير، تماشياً مع إعادة بعث القاعدة الصناعية الوطنية.

إن مشروع تطوير السكك الحديدية في الجزائر، برؤية 2030، هو حجر الزاوية للنهوض الاقتصادي الوطني واستعادة مكانة الجزائر كقوة إنتاجية إقليمية رائدة.



✍️ بلقاسم مرباح




تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الطموحات التوسعية للمغرب خلال حرب التحرير الوطني: تحليل وثيقة من جهاز الاستخبارات الفرنسي لعام 1957

 تكشف وثيقة من جهاز الاستخبارات الفرنسي، مؤرخة في 16 ديسمبر 1957، عن الطموحات التوسعية للمغرب تجاه الجزائر في خضم حرب الاستقلال. تلقي هذه الوثيقة ضوءًا جديدًا على العلاقات المعقدة بين البلدين وتتناقض جزئيًا مع السرد التاريخي الذي يتم تدريسه في الجزائر، والذي يشير إلى دعم غير مشروط من المغرب للثورة الجزائرية. في النسخة الرسمية لتاريخ حرب التحرير الوطني، كما يتم تقديمها في المدارس الجزائرية، يُصوَّر المغرب، تحت حكم الملك محمد الخامس، كحليف قوي في النضال من أجل استقلال الجزائر. يبرز هذا السرد وحدة الشعبين المغربي والجزائري في كفاحهما ضد الاستعمار الفرنسي. ومن الصحيح أن الثوار الجزائريين رأوا في بداية الأمر أن نضالهم جزء من حركة تحرير مغاربية أوسع (تونس – الجزائر – المغرب). على سبيل المثال، هجوم شمال قسنطينة في أغسطس 1955، الذي تم تنفيذه ردًا على نفي السلطان المغربي إلى مدغشقر، يوضح هذه التضامن الإقليمي. ومع ذلك، كانت سنة 1956 نقطة تحول حاسمة في العلاقات بين الجزائر والمغرب. خلال هذه الفترة، حصل المغرب وتونس على استقلالهما بعد مفاوضات مباشرة مع فرنسا، تاركين الجزائر تواصل نضالها المسلح...

عبد العزيز رحابي يحلل اتفاقية الشراكة مع الاتحاد الأوروبي

 في مقابلة مع TSA Algérie ، تحدث عبد العزيز رحابي، الدبلوماسي والوزير الجزائري السابق، عن توقيع اتفاقية الشراكة بين الجزائر والاتحاد الأوروبي (EU)، ودور الدبلوماسية الجزائرية وتأثير الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة. النقاط الرئيسية في المقابلة مشاكل اتفاقية الشراكة الجزائر-الاتحاد الأوروبي : انتقد رحابي اتفاقية الشراكة موضحًا أنها لم تحقق الأثر المتوقع للجزائر. وأعرب عن أسفه لعدم وجود حوار حقيقي بين الجزائر وأوروبا حول القضايا الحيوية مثل الأمن الإقليمي، الإرهاب، الهجرة والتهديدات الاقتصادية والاستراتيجية. شدد على أن الجزائر خسرت ما يقرب من 16 مليار دولار نتيجة التفكيك التدريجي للتعريفات الجمركية المنصوص عليه في الاتفاقية، في حين أن الاستثمارات الأوروبية في الجزائر ظلت ضعيفة. دور الحكم الرشيد والدبلوماسية : أكد رحابي على أهمية الحكم الرشيد لتجنب توقيع الجزائر على اتفاقيات تجارية غير مواتية. انتقد الإدارة الجزائرية لافتقارها للإصلاحات واعتمادها على اقتصاد الريع، مما يعرقل جهود التحديث والتكيف مع التغيرات الاقتصادية العالمية. مفاوضات الاتفاقية : أشار رحابي إلى أن فكرة التعاون الأورو...

الأسباب التي دفعت ستافان دي ميستورا إلى اقتراح تقسيم الصحراء الغربية

 النزاع في الصحراء الغربية، الذي يمتد منذ عام 1975 بين المغرب وجبهة البوليساريو المدعومة من الجزائر، لا يزال أحد أقدم النزاعات غير المحلولة. في ظل الجمود الدبلوماسي، اقترح المبعوث الأممي ستافان دي ميستورا حل التقسيم كخيار محتمل. تعكس هذه الخطوة التحديات المستمرة في إيجاد حل يرضي جميع الأطراف. السياق التاريخي والجمود الدبلوماسي الصحراء الغربية منطقة تطالب بها المغرب منذ انسحاب إسبانيا عام 1975. المغرب يقترح خطة للحكم الذاتي تحت سيادته، مدعومة من فرنسا، بينما تسعى جبهة البوليساريو إلى استفتاء لتقرير المصير يشمل خيار الاستقلال. فشلت الجهود السابقة في التوصل إلى حل توافقي، مما دفع دي ميستورا إلى اقتراح مسارات جديدة، منها تقسيم المنطقة. أسباب الاقتراح عدة عوامل قد تفسر سبب طرح دي ميستورا لفكرة التقسيم: المأزق القانوني والسياسي : على الرغم من أن بعض الاعترافات الدولية، مثل اعتراف الولايات المتحدة، قد تعزز الموقف السياسي للمغرب على الساحة الدولية، فإنها لا تغير الإطار القانوني الدولي الساري. وفقاً للقانون الدولي، وخاصة مبدأ حق الشعوب في تقرير المصير، يعود الأمر إلى شعب الصحراء الغربية لتح...