المغرب العربي، بأرضه الغنية بالهويات المتعددة وتاريخه المليء بالديناميات المعقدة، لم ينجُ من بصمات الاستعمار العميقة. ومن بين أخطر القرارات التي فرضتها القوى الاستعمارية، يبرز قرار تغيير اسم المغرب من “سلطنة فاس ومراكش” أو “المغرب الأقصى” إلى “المغرب” تحت الحماية الفرنسية، كخطوة لم تكن إدارية بريئة كما روّجوا لها، بل مؤامرة تاريخية محبوكة.
فرنسا، التي كانت تخطط منذ القرن التاسع عشر لابتلاع الجزائر بالكامل ومسح وجودها كأمة، وجدت في هذا التغيير فرصة ذهبية لتزييف الوعي الجماعي في المنطقة. الهدف الخفي كان واضحًا: إعطاء المغرب غطاءً تاريخيًا أوسع، يسمح له بالسطو الرمزي على تاريخ الجزائر المجيد، وتبرير الاحتلال الفرنسي باعتباره “إعادة توحيد” أراضٍ مغربية مزعومة.
أدى توحيد تسمية المغرب إلى تركيز الروايات التاريخية في المخيال الجماعي، مما أدى أحيانًا إلى طمس أو تقليل إسهامات الشعوب الأخرى في المغرب العربي، لا سيما الجزائر. وقد تسبب هذا الأمر في توترات حول تأويل التاريخ والمطالبة بشخصيات بارزة مثل طارق بن زياد، وسيدي بومدين الغوث، فضلًا عن باب المغاربة في القدس.
السياق التاريخي والإداري
قبل التدخل الاستعماري، لم يكن اسم “المغرب” بالشكل الذي نعرفه اليوم جزءًا من الهوية الرسمية للبلاد. فقد كان يُعرف في الوثائق والمراسلات والخرائط القديمة باسم “مملكة مراكش” أو “المغرب الأقصى”، وهي تسمية جغرافية صرفة تعكس موقعه في أقصى الغرب الإسلامي، دون أي ادّعاء بامتداد تاريخي على حساب جيرانه.
لكن مع بداية القرن العشرين، وتحديدًا سنة 1908، ظهرت أولى بوادر التلاعب بالهوية عبر ما سُمّي “الدستور المغربي” الذي وُضع تحت تأثير مباشر وضغط واضح من فرنسا، التي كانت آنذاك قد تغلغل نفوذها في الإدارة المغربية إلى درجة التحكم في القرارات السيادية. هذا الدستور، الذي صيغ بروح وأفكار فرنسية، لم يكن مجرد إصلاح سياسي شكلي، بل كان خطوة استراتيجية تمهّد لمشروع استعماري أوسع.
إحدى أخطر هذه الخطوات كانت فكرة تغيير اسم الدولة إلى “المغرب”، في خطوة مقصودة ومدروسة. لم يكن الهدف إداريًا أو جغرافيًا بريئًا كما زعمت القوى الاستعمارية، بل كان يحمل غاية خبيثة: إعادة صياغة التاريخ لصالح رواية تمكّن المغرب من السطو الرمزي على إرث الجزائر. أرادت فرنسا أن تصوّر الجزائر، التي كانت تقاوم احتلالها بشراسة، على أنها مجرد امتداد جغرافي وتاريخي لكيان خاضع للحماية الفرنسية، أي “المغرب”.
بهذه الحيلة، عملت باريس على محو فكرة “الأمة الجزائرية” من الوعي التاريخي والإقليمي، لتسهيل تبرير احتلالها وتصويره كمجرّد إعادة توحيد “أراضٍ مغربية” تحت سلطة استعمارية واحدة. لقد كان الأمر عملية سرقة هوية وتاريخ كاملة، أُنجزت على الورق أولًا، قبل أن تُفرض بالقوة على أرض الواقع
تأثير هذا التغيير على الجزائر والهوية المغاربية
1. طمس الفروقات التاريخية والثقافية
ساهم توحيد التسمية عبر المغرب العربي في إضعاف التمييز بين الكيانات التاريخية المختلفة التي شكلت المنطقة. فالجزائر، بتاريخها العريق وسلالاتها المحلية المتعددة، كثيرًا ما رُويت شخصياتها وأحداثها ضمن سياقات خارجية أو دُمجت في روايات أخرى.
2. الاستحواذ على الشخصيات التاريخية البارزة
أدى فرض هوية مغربية موحدة خلال الحماية الفرنسية إلى إعادة تأويل التاريخ بشكل أدى في بعض الأحيان إلى نسب شخصيات مغاربية بارزة إلى المغرب، مثل:
- طارق بن زياد: القائد الأمازيغي الذي قاد فتح الأندلس عام 711، لا يزال أصلُه محل جدل. يتفق العديد من المؤرخين على أنه من قبائل الزناتة الجزائرية، لكن بعض الروايات المغربية الحديثة تسعى إلى إدماجه في تاريخ المغرب.
- سيدي بومدين الغوث: شخصية صوفية بارزة، ارتبطت حياته وتأثيره بالجزائر، وخاصة في مدينة تلمسان حيث يوجد ضريحه، لكن بعض السرديات المعاصرة تحاول توسيع نطاق إرثه خارج الجزائر.
- باب المغاربة في القدس: هذا المعلم الذي يرمز إلى الوجود المغاربي في القدس، أصبح مرتبطًا بالمغرب مع مرور الزمن، نتيجة للتحولات التاريخية التي تعززت خلال فترة الحماية الفرنسية.
3. تداعيات ذلك على قراءة التاريخ
أدى توحيد التسميات وإعادة صياغة الروايات التاريخية إلى عدة إشكاليات:
- الارتباك المصطلحي: أدى تغيير الأسماء الرسمية إلى تعقيد عمل المؤرخين والباحثين، مما صعب دراسة الأحداث والشخصيات في سياقها الأصلي.
- تحريف التصور التاريخي: أدت هذه التغيرات إلى رؤية حديثة للتاريخ تميل أحيانًا إلى التقليل من شأن إسهامات الجزائريين والمغاربيين الآخرين.
السردية الوطنية المغربية وتناقضاتها
1. تاريخ مبني على سلالات أجنبية
رغم الادعاء بوجود استمرارية تاريخية منذ تأسيس الدولة الإدريسية عام 789، فإن التاريخ السياسي للمغرب كان في الواقع نتاج سلالات حاكمة من أصول خارجية:
- المرابطون: أصولهم من موريتانيا، استولوا على المغرب ثم توسعوا إلى الأندلس.
- الموحدون: أسسوا دولتهم في الجزائر (بين قبائل الزناتة) ثم سيطروا على المغرب والأندلس.
- المرينيون والوَطّاسيون: من الزناتة الجزائرية، حكموا المغرب بعد سقوط الموحدين.
- السعديون والعلويون: سلالات ذات أصول عربية، فرضت سيطرتها بعد صراعات طويلة مع القبائل المحلية.
2. سلطة ضعيفة داخليًا
على عكس الصورة النمطية عن "إمبراطورية قوية"، كانت سلطة السلاطين المغاربة محصورة غالبًا في مدن مثل فاس ومراكش. وكانت القبائل الأمازيغية، التي رفضت الحكم المركزي، تفرض على السلاطين الخروج من المدن بحراسات ضخمة لتجنب هجمات القبائل المتمردة، كما وصف الرحالة والتر ب. هاريس في كتابه Morocco That Was.
3. أوهام التوسع الإقليمي
الادعاء بأن المغرب امتد تاريخيًا ليشمل موريتانيا، الصحراء الغربية، أجزاءً من الجزائر ومالي، هو ادعاء قائم على حجج ضعيفة. فعندما احتلت فرنسا هذه الأراضي خلال القرنين التاسع عشر والعشرين، لم تتدخل أي قوة مغربية للدفاع عنها.
علاوة على ذلك، فإن مفهوم "المغرب الكبير" هو مفهوم حديث تم الترويج له من قبل جهاز الاستخبارات الفرنسية (SDEC) في الخمسينيات، بهدف عرقلة وحدة المغرب العربي الحقيقية.
الخاتمة
يكشف تحليل التاريخ أن السردية الوطنية المغربية تستند إلى أسس ضعيفة، مما يستدعي مراجعة نقدية للإرث الاستعماري وما بعد الاستعماري لفهم الهوية المغاربية بشكل أكثر دقة.
أخيرًا، فإن فكرة المغرب التاريخي بحدود شاسعة تتناقض مع الحقائق التاريخية والأرشيفات. كما اعترف السلطان المغربي نفسه في مراسلته إلى ملك إسبانيا عام 1884، فإن نفوذ المغرب لم يكن يتجاوز وادي نون.
لذلك، من الضروري تفكيك السرديات المنحازة والعمل على بناء وعي تاريخي مشترك يحترم الحقائق التاريخية، من أجل مستقبل متكامل للمغرب العربي.
✍️ بلقاسم مرباح
وطني جزائري، حرّ في قلمه كما في مواقفه.
تعليقات
إرسال تعليق