التخطي إلى المحتوى الرئيسي

الجزائر: رؤية جيوستراتيجية ناجحة في عالم متغير

 لطالما وُصفت الجزائر بأنها لاعب هادئ لكنه مؤثر على الساحة الدولية، ويبدو اليوم أنها تجني ثمار دبلوماسية متبصرة قائمة على الاستقلالية الاستراتيجية وتنويع الشراكات. فبينما تواجه فرنسا عزلة متزايدة في أوروبا وإفريقيا، وتشهد منطقة الساحل تحولات جذرية، نجد أن الجزائر تثبت أنها قوة لا غنى عنها في المنطقة.

تشير الأحداث الأخيرة، بما في ذلك عودة مالي إلى الحوار مع الجزائر بعد محاولات لجرها نحو معسكر آخر، وتراجع الدور الفرنسي بعد الاعتراف بـ"مغربية الصحراء الغربية"، إلى أن الجزائر قد اتخذت قرارات صائبة واستباقية، مما عزز مكانتها في المعادلة الجيوسياسية العالمية.

مالي تعود إلى الجزائر: انتصار دبلوماسي جديد

إحدى أبرز الدلالات على نجاح الدبلوماسية الجزائرية هو القرار الأخير للسلطات المالية إعادة فتح قنوات التواصل مع الجزائر، عبر إرسال سفير جديد إلى الجزائر العاصمة، في خطوة تهدف إلى تخفيف التوترات التي نشأت خلال الأشهر الماضية.

🔹 محاولة لجر مالي بعيدًا عن الجزائر
في الفترة الأخيرة، كان المغرب يحاول كسب ود مالي، مدفوعًا برغبته في توسيع نفوذه داخل إفريقيا الغربية وخلق توازنات جديدة تعزل الجزائر. جاء ذلك في إطار تحركات مغربية لدعم موقفها في قضية الصحراء الغربية، مستخدمة نفوذها داخل دول الساحل، خاصة في باماكو.

🔹 الجزائر تفرض نفسها كفاعل لا يمكن تجاوزه
لكن مالي سرعان ما أدركت أن علاقتها مع الجزائر لا يمكن استبدالها، وذلك لعدة أسباب:

  • الحدود المشتركة الطويلة بين البلدين، والتي تتطلب تنسيقًا أمنيًا وثيقًا، خاصة في ظل التهديدات الإرهابية.
  • دور الجزائر التاريخي في اتفاق السلام في مالي (اتفاق الجزائر 2015)، وهو اتفاق جوهري في استقرار البلاد.
  • الدعم الاقتصادي والإنساني الذي تقدمه الجزائر لجيرانها الأفارقة، مما يجعلها شريكًا أكثر موثوقية واستدامة من أي قوة أخرى.

وهكذا، فإن عودة مالي إلى التعاون مع الجزائر تمثل نكسة دبلوماسية كبيرة للمغرب وتؤكد أن الجزائر تظل حجر الزاوية في استقرار منطقة الساحل.


فرنسا: عزلة متزايدة بعد الاعتراف بمغربية الصحراء الغربية

بينما تستعيد الجزائر زمام المبادرة في إفريقيا، تواجه فرنسا واحدة من أكبر نكساتها الدبلوماسية. ففي يوليو 2024، أعلن الرئيس إيمانويل ماكرون اعتراف فرنسا الرسمي بسيادة المغرب على الصحراء الغربية، في تحول جذري يتعارض مع قرارات الأمم المتحدة وأحكام محكمة العدل الأوروبية.

🔹 خرق للقانون الدولي
من خلال هذا القرار، اصطدمت فرنسا بعدة عقبات:

  • تعارض موقفها مع قرارات الأمم المتحدة التي لا تزال تعتبر الصحراء الغربية إقليمًا غير متمتع بالحكم الذاتي.
  • معارضة محكمة العدل الأوروبية، التي أكدت في عدة أحكام أن موارد الصحراء الغربية لا يمكن استغلالها دون موافقة الشعب الصحراوي.
  • استياء الجزائر، التي ترى في هذا القرار انحيازًا صريحًا ضد حق تقرير المصير للشعب الصحراوي.

🔹 تراجع النفوذ الفرنسي في إفريقيا
لم يكن هذا القرار سوى استمرار لنكسة أكبر تواجهها فرنسا، حيث أصبحت أكثر هامشية في القارة الإفريقية بعد سلسلة من الإخفاقات:

  • طرد القوات الفرنسية من مالي، بوركينا فاسو، والنيجر، ما أنهى حقبة النفوذ العسكري الفرنسي في الساحل.
  • صعود القوى البديلة مثل روسيا وتركيا والصين، التي عززت وجودها في إفريقيا على حساب النفوذ الفرنسي.
  • تعزيز الجزائر لتحالفاتها داخل الاتحاد الإفريقي، ما جعلها قوة إقليمية ذات تأثير متزايد.

🔹 عزلة في أوروبا أيضًا
على المستوى الأوروبي، لم تحظ المغربنة الفرنسية للصحراء الغربية بأي دعم ملموس. إسبانيا وألمانيا، رغم تقارب بعض مواقفهما مع المغرب، لم تذهبا إلى حد تأييد الموقف الفرنسي، بينما حافظ الاتحاد الأوروبي على نهجه القائم على احترام قرارات الأمم المتحدة.

بالتالي، نجد أن فرنسا ليست فقط في عزلة إفريقية، بل أيضًا تواجه صعوبة في حشد الدعم داخل أوروبا، مما يزيد من تهميش دورها الدولي.

الولايات المتحدة وروسيا تناقشان أوكرانيا بدون كييف أو أوروبا

في تحول جديد يعكس إعادة ترتيب الأولويات العالمية، دخلت الولايات المتحدة وروسيا في مفاوضات مباشرة حول مستقبل أوكرانيا، دون إشراك كييف أو حتى الاتحاد الأوروبي.

🔹 استبعاد أوروبا من صنع القرار
في الوقت الذي ظلت فيه أوروبا تقدم دعمًا سياسيًا وعسكريًا غير مشروط لأوكرانيا، وجدت نفسها فجأة مستبعدة من طاولة المفاوضات، ما يدل على تراجع نفوذها في القضايا الجيوسياسية الكبرى.

  • هذا يعكس واقعًا صادمًا: أوروبا ليست فاعلًا عسكريًا بل مجرد تابع للولايات المتحدة.
  • الاتحاد الأوروبي، رغم قوته الاقتصادية، لا يمتلك رؤية دبلوماسية مستقلة تجعله لاعبًا حاسمًا في الأزمات العالمية.

الجزائر: قوة متنامية في عالم متعدد الأقطاب

بينما تتراجع فرنسا وأوروبا، نجد أن الجزائر تواصل تعزيز موقعها على الصعيدين الإقليمي والدولي، مستفيدة من:

🔹 التزامها بالقانون الدولي

  • لم تتورط الجزائر في سياسات متقلبة أو تحالفات مشبوهة، بل ظلت وفيّة لمبدأ حق الشعوب في تقرير المصير، ما أكسبها احترامًا عالميًا، خاصة فيما يتعلق بالصحراء الغربية وفلسطين.

🔹 تنويع تحالفاتها الدولية

  • الجزائر لم ترهن نفسها لمحور واحد، بل عززت علاقاتها مع روسيا والصين، وحافظت على قنوات اتصال مفتوحة مع الولايات المتحدة، بالإضافة إلى تعزيز مكانتها داخل إفريقيا والعالم العربي.

🔹 استقرارها الداخلي يعزز موقعها الخارجي

  • في وقت تعاني فيه دول الجوار من اضطرابات سياسية واقتصادية، نجحت الجزائر في تحقيق استقرار نسبي، مما يمنحها قدرة أكبر على التأثير في محيطها الإقليمي والدولي.

خاتمة: الجزائر تنتصر في معركة الاستراتيجيات

في عالم يشهد تحولات كبرى، يمكن القول إن الجزائر كانت صاحبة رؤية بعيدة المدى، حيث راهنت على مبادئ السيادة والاستقلالية ونجحت في تجنب الأخطاء الجيوستراتيجية التي وقعت فيها دول أخرى.

  • مالي تعود إلى الجزائر، معترفةً بأن دورها في الساحل لا يمكن تجاوزه.
  • فرنسا تواجه العزلة بسبب خيارات دبلوماسية خاطئة.
  • أوروبا تجد نفسها خارج الحسابات الجيوسياسية الكبرى.

في النهاية، يبدو أن الجزائر قد اختارت الطريق الصحيح، حيث تؤكد مكانتها كقوة إقليمية صاعدة في عالم يتجه نحو التعددية القطبية


بــلقـــاســم مــربــاح

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

نداء لطرد المغاربة المقيمين بشكل غير قانوني في الجزائر

وقع على العريضة إذا كنت توافق https://www.mesopinions.com/petition/politique/appel-solennel-expulsion-marocains-situation-irreguliere/232124   السيد الرئيس، أيها المواطنون الأعزاء، نحن نواجه وضعًا حرجًا يتطلب استجابة حازمة وحاسمة. إن وجود أكثر من 1.2 مليون من المواطنين المغاربة في وضع غير قانوني على أراضينا يشكل تهديدًا للأمن القومي، والاقتصاد، والتماسك الاجتماعي لبلدنا. يجب علينا أن نتحرك بعزم لحماية أمتنا وضمان مستقبل آمن ومزدهر لجميع الجزائريين. الأمن القومي في خطر تم الكشف عن وجود علاقات بين أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية والمغرب. وتشير التقارير إلى أن الموساد يقوم بتجنيد واسع النطاق في الجالية المغربية، لا سيما في فرنسا. لا يمكننا استبعاد إمكانية حدوث أنشطة مشابهة على أرضنا، مما يهدد أمننا القومي. كدولة ذات سيادة، لا يمكننا التسامح مع وجود أفراد يمكن أن يعرضوا أمننا واستقرارنا للخطر. التأثيرات الاقتصادية والاجتماعية تشكل تدفقات العملة الصعبة بشكل غير قانوني نحو تونس ليتم تحويلها إلى المغرب عبر البنوك المغربية هروبًا غير مقبول لرؤوس الأموال. بالإضافة إلى ذلك، فإن تورط بعض أعضاء ...

عبد العزيز رحابي يحلل اتفاقية الشراكة مع الاتحاد الأوروبي

 في مقابلة مع TSA Algérie ، تحدث عبد العزيز رحابي، الدبلوماسي والوزير الجزائري السابق، عن توقيع اتفاقية الشراكة بين الجزائر والاتحاد الأوروبي (EU)، ودور الدبلوماسية الجزائرية وتأثير الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة. النقاط الرئيسية في المقابلة مشاكل اتفاقية الشراكة الجزائر-الاتحاد الأوروبي : انتقد رحابي اتفاقية الشراكة موضحًا أنها لم تحقق الأثر المتوقع للجزائر. وأعرب عن أسفه لعدم وجود حوار حقيقي بين الجزائر وأوروبا حول القضايا الحيوية مثل الأمن الإقليمي، الإرهاب، الهجرة والتهديدات الاقتصادية والاستراتيجية. شدد على أن الجزائر خسرت ما يقرب من 16 مليار دولار نتيجة التفكيك التدريجي للتعريفات الجمركية المنصوص عليه في الاتفاقية، في حين أن الاستثمارات الأوروبية في الجزائر ظلت ضعيفة. دور الحكم الرشيد والدبلوماسية : أكد رحابي على أهمية الحكم الرشيد لتجنب توقيع الجزائر على اتفاقيات تجارية غير مواتية. انتقد الإدارة الجزائرية لافتقارها للإصلاحات واعتمادها على اقتصاد الريع، مما يعرقل جهود التحديث والتكيف مع التغيرات الاقتصادية العالمية. مفاوضات الاتفاقية : أشار رحابي إلى أن فكرة التعاون الأورو...

الطموحات التوسعية للمغرب خلال حرب التحرير الوطني: تحليل وثيقة من جهاز الاستخبارات الفرنسي لعام 1957

 تكشف وثيقة من جهاز الاستخبارات الفرنسي، مؤرخة في 16 ديسمبر 1957، عن الطموحات التوسعية للمغرب تجاه الجزائر في خضم حرب الاستقلال. تلقي هذه الوثيقة ضوءًا جديدًا على العلاقات المعقدة بين البلدين وتتناقض جزئيًا مع السرد التاريخي الذي يتم تدريسه في الجزائر، والذي يشير إلى دعم غير مشروط من المغرب للثورة الجزائرية. في النسخة الرسمية لتاريخ حرب التحرير الوطني، كما يتم تقديمها في المدارس الجزائرية، يُصوَّر المغرب، تحت حكم الملك محمد الخامس، كحليف قوي في النضال من أجل استقلال الجزائر. يبرز هذا السرد وحدة الشعبين المغربي والجزائري في كفاحهما ضد الاستعمار الفرنسي. ومن الصحيح أن الثوار الجزائريين رأوا في بداية الأمر أن نضالهم جزء من حركة تحرير مغاربية أوسع (تونس – الجزائر – المغرب). على سبيل المثال، هجوم شمال قسنطينة في أغسطس 1955، الذي تم تنفيذه ردًا على نفي السلطان المغربي إلى مدغشقر، يوضح هذه التضامن الإقليمي. ومع ذلك، كانت سنة 1956 نقطة تحول حاسمة في العلاقات بين الجزائر والمغرب. خلال هذه الفترة، حصل المغرب وتونس على استقلالهما بعد مفاوضات مباشرة مع فرنسا، تاركين الجزائر تواصل نضالها المسلح...