التخطي إلى المحتوى الرئيسي

تأميم المحروقات في الجزائر: محطة مفصلية في التاريخ الاقتصادي للبلاد

  يُعد يوم 24 فبراير 1971 لحظة فارقة في مسار الجزائر المستقلة، حيث أعلن الرئيس هواري بومدين عن تأميم المحروقات، في خطوة سيادية جسدت الاستقلال الاقتصادي الحقيقي للبلاد. جاء هذا القرار ليُعيد للجزائر سيادتها الكاملة على مواردها الطبيعية، ويمهّد الطريق لنموذج تنموي يعتمد على التحكم الوطني في الثروات.


خلفية التأميم: بين الاستقلال السياسي والاقتصادي

بعد حصولها على الاستقلال في 5 يوليو 1962، واجهت الجزائر تحديات كبيرة في بناء اقتصاد وطني قادر على تحقيق التنمية المستدامة. ورغم استرجاع السيادة السياسية، إلا أن السيطرة على الموارد الطبيعية، وعلى رأسها المحروقات، ظلت بيد الشركات الأجنبية، وخاصة شركة النفط الفرنسية (CFP) التي كانت تستحوذ على نصيب الأسد من الإنتاج والعائدات.

في سياق عالمي اتسم بتصاعد حركات التحرر الاقتصادي، ووسط دعم متزايد لمفهوم السيادة الوطنية على الموارد، بدأت الجزائر في اتخاذ خطوات تدريجية لاسترجاع ثرواتها الطبيعية. وقد جاءت حرب الأيام الستة عام 1967 وقرار بعض الدول العربية استخدام النفط كورقة ضغط سياسية، لتؤكد أهمية التحكم الوطني في الطاقة.

إعلان التأميم: خطوة جريئة نحو الاستقلال الاقتصادي

في 24 فبراير 1971، وأمام حشد كبير في مدينة حاسي مسعود، أعلن هواري بومدين عن قرار تأميم المحروقات، حيث استحوذت الجزائر على جميع المنشآت النفطية والغازية التي كانت تديرها الشركات الأجنبية، لا سيما الفرنسية. وقد تم تنفيذ هذا القرار عبر:

  • نقل ملكية الحقول النفطية والغازية إلى الدولة الجزائرية.
  • تمكين شركة سوناطراك من السيطرة على الإنتاج والتصدير.
  • إعادة التفاوض مع الشركات الأجنبية وفق شروط جديدة تخدم المصلحة الوطنية.

كان هذا الإعلان بمثابة رسالة قوية للعالم مفادها أن الجزائر لم تنل استقلالها السياسي فقط، بل تسعى أيضًا إلى استقلال اقتصادي حقيقي.

تداعيات وتأثيرات التأميم

كان لتأميم المحروقات أثر بالغ على عدة مستويات:

1. على المستوى الاقتصادي

  • عزّز التأميم من موارد الدولة المالية، مما سمح بالاستثمار في البنية التحتية والصناعة.
  • دفع إلى تطوير شركة سوناطراك، التي أصبحت أحد أهم اللاعبين في سوق الطاقة العالمي.
  • ساعد على تنويع الاقتصاد الجزائري، رغم استمرار الاعتماد الكبير على المحروقات.

2. على المستوى السياسي

  • عزّز التأميم من السيادة الوطنية ورسّخ مكانة الجزائر كدولة ذات قرار مستقل.
  • أعطى دفعة قوية لحركة عدم الانحياز، حيث باتت الجزائر نموذجًا لدول العالم الثالث في النضال الاقتصادي.
  • عزّز مكانة هواري بومدين كزعيم وطني حازم في حماية المصالح الجزائرية.

3. على المستوى الدولي

  • أحدث القرار توترًا مع فرنسا، التي فقدت سيطرتها على النفط الجزائري، لكنه فتح الباب أمام شراكات جديدة مع دول أخرى.
  • شكّل إلهامًا لعدد من الدول المنتجة للنفط لاتخاذ خطوات مشابهة لاسترجاع سيادتها على مواردها.
  • ساهم في دعم منظمة أوبك في مفاوضاتها ضد الشركات النفطية الكبرى.

إرث التأميم واستمراريته

لا يزال تأميم المحروقات عام 1971 حدثًا بارزًا في الذاكرة الوطنية الجزائرية، حيث مهّد الطريق لنموذج اقتصادي يعتمد على استغلال الموارد الوطنية لخدمة التنمية. ورغم التحديات التي واجهتها الجزائر لاحقًا، مثل تقلبات أسعار النفط ومحاولات تنويع الاقتصاد، إلا أن هذا القرار ظل أحد أهم إنجازات الدولة الجزائرية المستقلة.

اليوم، وبعد أكثر من خمسة عقود، تستمر الجزائر في الاستفادة من هذا القرار عبر تطوير قطاع الطاقة، والبحث عن استراتيجيات جديدة لتعزيز استغلال الموارد بما يخدم المصلحة الوطنية. ويظل 24 فبراير يومًا وطنيًا يُحيي فيه الجزائريون ذكرى واحدة من أهم المحطات في تاريخهم الاقتصادي والسياسي.

بــلقـــاســم مــربــاح


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

نداء لطرد المغاربة المقيمين بشكل غير قانوني في الجزائر

وقع على العريضة إذا كنت توافق https://www.mesopinions.com/petition/politique/appel-solennel-expulsion-marocains-situation-irreguliere/232124   السيد الرئيس، أيها المواطنون الأعزاء، نحن نواجه وضعًا حرجًا يتطلب استجابة حازمة وحاسمة. إن وجود أكثر من 1.2 مليون من المواطنين المغاربة في وضع غير قانوني على أراضينا يشكل تهديدًا للأمن القومي، والاقتصاد، والتماسك الاجتماعي لبلدنا. يجب علينا أن نتحرك بعزم لحماية أمتنا وضمان مستقبل آمن ومزدهر لجميع الجزائريين. الأمن القومي في خطر تم الكشف عن وجود علاقات بين أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية والمغرب. وتشير التقارير إلى أن الموساد يقوم بتجنيد واسع النطاق في الجالية المغربية، لا سيما في فرنسا. لا يمكننا استبعاد إمكانية حدوث أنشطة مشابهة على أرضنا، مما يهدد أمننا القومي. كدولة ذات سيادة، لا يمكننا التسامح مع وجود أفراد يمكن أن يعرضوا أمننا واستقرارنا للخطر. التأثيرات الاقتصادية والاجتماعية تشكل تدفقات العملة الصعبة بشكل غير قانوني نحو تونس ليتم تحويلها إلى المغرب عبر البنوك المغربية هروبًا غير مقبول لرؤوس الأموال. بالإضافة إلى ذلك، فإن تورط بعض أعضاء ...

عبد العزيز رحابي يحلل اتفاقية الشراكة مع الاتحاد الأوروبي

 في مقابلة مع TSA Algérie ، تحدث عبد العزيز رحابي، الدبلوماسي والوزير الجزائري السابق، عن توقيع اتفاقية الشراكة بين الجزائر والاتحاد الأوروبي (EU)، ودور الدبلوماسية الجزائرية وتأثير الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة. النقاط الرئيسية في المقابلة مشاكل اتفاقية الشراكة الجزائر-الاتحاد الأوروبي : انتقد رحابي اتفاقية الشراكة موضحًا أنها لم تحقق الأثر المتوقع للجزائر. وأعرب عن أسفه لعدم وجود حوار حقيقي بين الجزائر وأوروبا حول القضايا الحيوية مثل الأمن الإقليمي، الإرهاب، الهجرة والتهديدات الاقتصادية والاستراتيجية. شدد على أن الجزائر خسرت ما يقرب من 16 مليار دولار نتيجة التفكيك التدريجي للتعريفات الجمركية المنصوص عليه في الاتفاقية، في حين أن الاستثمارات الأوروبية في الجزائر ظلت ضعيفة. دور الحكم الرشيد والدبلوماسية : أكد رحابي على أهمية الحكم الرشيد لتجنب توقيع الجزائر على اتفاقيات تجارية غير مواتية. انتقد الإدارة الجزائرية لافتقارها للإصلاحات واعتمادها على اقتصاد الريع، مما يعرقل جهود التحديث والتكيف مع التغيرات الاقتصادية العالمية. مفاوضات الاتفاقية : أشار رحابي إلى أن فكرة التعاون الأورو...

الطموحات التوسعية للمغرب خلال حرب التحرير الوطني: تحليل وثيقة من جهاز الاستخبارات الفرنسي لعام 1957

 تكشف وثيقة من جهاز الاستخبارات الفرنسي، مؤرخة في 16 ديسمبر 1957، عن الطموحات التوسعية للمغرب تجاه الجزائر في خضم حرب الاستقلال. تلقي هذه الوثيقة ضوءًا جديدًا على العلاقات المعقدة بين البلدين وتتناقض جزئيًا مع السرد التاريخي الذي يتم تدريسه في الجزائر، والذي يشير إلى دعم غير مشروط من المغرب للثورة الجزائرية. في النسخة الرسمية لتاريخ حرب التحرير الوطني، كما يتم تقديمها في المدارس الجزائرية، يُصوَّر المغرب، تحت حكم الملك محمد الخامس، كحليف قوي في النضال من أجل استقلال الجزائر. يبرز هذا السرد وحدة الشعبين المغربي والجزائري في كفاحهما ضد الاستعمار الفرنسي. ومن الصحيح أن الثوار الجزائريين رأوا في بداية الأمر أن نضالهم جزء من حركة تحرير مغاربية أوسع (تونس – الجزائر – المغرب). على سبيل المثال، هجوم شمال قسنطينة في أغسطس 1955، الذي تم تنفيذه ردًا على نفي السلطان المغربي إلى مدغشقر، يوضح هذه التضامن الإقليمي. ومع ذلك، كانت سنة 1956 نقطة تحول حاسمة في العلاقات بين الجزائر والمغرب. خلال هذه الفترة، حصل المغرب وتونس على استقلالهما بعد مفاوضات مباشرة مع فرنسا، تاركين الجزائر تواصل نضالها المسلح...