التخطي إلى المحتوى الرئيسي

الزاوية التيجانية.. قِبلة العشاق ومورد النُسّاك في الصحراء الجزائرية

 يقول ابن خلدون: "إذا كان المشرق أرض البيان، فإنّ المغرب أرض البرهان"، أي أنّ الفضاء العربي يعيش بين بلاغة اللّغة في مشرقه، وبلاغة الرّوح والتصوّف في مغربه، الذي يُنسب كلّ تجمّع سكني فيه إلى الجدّ الأوّل، الذي يكون عادةً وليًّا صالحًا، ويكون ضريحه والزّاوية التي تحمل اسمه، محطّ قلوب واهتمام وزيارات المريدين والمؤمنين ببركاته، بل إنّ بعض الزّوايا التابعة لبعض الطرق الصّوفية، تملك امتدادًا عابرًا للقارّات، من خلال ملايين الأتباع المؤتمرين بأوامرها والملتزمين بتعاليمها.


تعد الطريقة التيجانية، أكبر طريقة صوفية تنطلق من الجزائر إلى بقاع الأرض، إذ يقدر عدد مريديها بأكثر من 250 مليونًا حول العالم


في الجزائر، أو المغرب الأوسط بحسب التسمية التي تعتمدها الجغرافيا السّياسية القديمة، توجد مقرّات القيادة العالمية العامّة المعروفة بـ"المشيخة العامّة" أو "الخلافة العامّة" لبعض الطرق الصّوفية، إلى جانب فروع لطرق أخرى، توجد مقرّاتها الأمّ في دول إسلامية أخرى.

وتعدّ الطريقة التيجانية المنسوبة إلى أبي العبّاس أحمد التجاني (1737 ـ 1815) أكبر طريقة صوفية تنطلق من الجزائر إلى بقاع الأرض، والتي يقول الباحث في التصوف الإسلامي سعيد جاب الخير، إن عدد مريديها يزيدون على 250 مليونًا "كلّهم ينتمون روحيًّا إلى الخليفة العام في الصّحراء الجزائرية، إذ تكفي مكالمة منه لإنهاء نزاع من النّزاعات، أو تمرير مشروع من المشاريع، ذلك أن كثيرًا من الرّؤساء الأفارقة والمسؤولين في العالم الإسلامي ينتمون إلى طريقته أو يُجلونها".

غير أنّ السّلطات الجزائرية لم تستثمر في نفوذ هذه الطريقة، كما أوضح جاب الخير لـ"ألترا صوت": "على الأقلّ من زاوية السّياحة الدّينية، إذ لا يتوفّر فندق واحد في المنطقة التي تحتضن الزّاوية الأم، وكل الحجّاج التجانيين إليها، يتمّ التكفّل بهم من طرف الزّاوية نفسها ومن طرف أتباعها المجاورين لها".

ويشير الباحث في التصوف الإسلامي، إلى أن وفاة شيخ الطريقة ومؤسسها، كانت في مدينة فاس المغربية عام 1815، واستطاع المغرب أن يستغل هذا الأمر على أكثر من صعيد، كما أوضح. 


ويقع المقرّ العام للزّواية التجانية في بلدة عين ماضي الواقعة على بعد 70 كيلومترًا إلى الغرب من مدينة الأغواط التي تبعد بدورها 400 كيلومتر جنوب الجزائر العاصمة، ومعظم مبانيها من الطوب، بما فيها البيت الذي شهد ولادة مؤسّس الطريقة عام 1737، ويحظى بزيارة المئات يوميًّا، حيث يقفون عند بابه في خشوع ينمّ عن مدى ارتباطهم الرّوحي بصاحبه وبأحفاده الذين يتوارثون خلافته.

التقينا بعثمان، وهو رجل قادم من السنغال، يقول إنه ينتمي إلى أسرة تجانية، "غير أنّني لم أكن مقدّرًا لهذا الانتماء، وكنت أسخر منه، وأعتبره من مظاهر التخلّف والعبودية الفكرية. لكنّ حيرة وجودية أصابتني، حتى أنّي فكرت في الانتحار، وكان اقترابي من مجالس التجانية في بلدتي بداية لاستقراري نفسيًّا وفكريًّا"، كما قال. 

يواصل عثمان حديثه لـ"ألترا صوت"، قائلًا: "حينئذٍ قررت أن أتوج استقراري النفسي والفكري بقربي من المجالس التيجانية، بأن أزور مقر الطريقة في عين ماضي، وأحظى بلقاء الخليفة العام، الذي فهمني قبل أن أكلّمه، أو يعرف جنسيتي، وقام إليّ مهنّئًا ومرحبًا".

في تلك الأثناء، توقفت حافلة تحمل نخبة من المسرحيين والإعلاميين المشاركين في "الأيام المغاربية للمونودراما" بمدينة الأغواط. وكان السّرور باديًا على وجوه الجميع. يقول المسرحي التونسي شكري السّماوي: "لقد التقيت الخليفة العام السيد علي بلعرابي التجاني، وأدهشني تواضعه وانفتاحه وترحيبه، فالرجل يتحكم في عشرات الملايين في العالم. إنه زعيم حقيقي بامتياز، ويملك سلطة معنوية على الرؤساء أنفسهم، مع ذلك فهو لا يعطيك انطباعًا بأنه يختلف عن العامّة".

عن هذه السلطة، يقول الممثل السّماحي مرفوعة لـ"ألترا صوت"، إنّه كان يشتغل في قطاع الصّحة، في فترة الرئيس الشاذلي بن جديد، عندما "حدث أن كنت في حضرة الخليفة العام للطريقة التجانية، حين أصيب بوعكة صحية طارئة، فعلمت أنّ الرّئيس السنغالي اتصل بالرئيس الجزائري، ليستأذنه في إرسال طائرته الخاصّة إلى الخليفة العام، لنقله إلى مستشفى فرنسي، فصبّ الرّئيس الشاذلي جام غضبه على والي محافظة الأغواط التي تتبع لها بلدة عين ماضي إداريًّا، لأنه ترك الرؤساء الأجانب يعلمون بمرض الخليفة قبله".

كان العشرات يدخلون على الخليفة العام عابسين، ويخرجون مبتسمين كأنهم تلقّوا خبرًا سعيدًا. سألنا أحد المريدين القادمين من مدينة تمنراست -تقع على بعد 1700 كيلومتر إلى الجنوب من مدينة الأغواط- عن سبب سروره، فقال إنّه يعيش حالة نفسية لا يستطيع شرحها: "كبرت على احترام سيدي أحمد التيجاني ونسله، وها أنا أقف أمامه وجهًا لوجه، أحدّثه ويحدّثني وآخذ منه النّصيحة والدّعاء"، مضيفًا: "علينا أن نفرح حين نلتقي بأرواح وعقول تعيش من أجل نشر المحبّة والسّلام، في عالم بات زعماء القتل والإرهاب فيه، أشهر من علمائه وفنّانيه".

ما لفت الانتباه أن معظم من التقاهم "ألترا صوت" في بلدة عين ماضي، هم من الشباب القادمين من داخل أو خارج البلاد، وكثيرٌ منهم حاملين لشهادات جامعية عليا. ويعتبر الطالب الجامعي عادل زياني، أن هذا إنما هو دليل على "نفي الحكم القائل بأن أتباع الطرق الصوفية هم من المسنين والأميين وذوي المستويات العلمية المحدودة"، مستطردًا: "ذلك أنّ التصوّف معطى روحي منسجم مع النسيج الثقافي والاجتماعي العام للمجتمع، وكلّما تحسّن المستوى العلمي للشّخص زاد إدراكه لهذه الحقيقة". 

"هذا التعدّد في جنسيات وملامح ولغات مريدي الطّريقة التجانية، هو ثمرة لأدبياتها وتعاليمها القائمة على التسامح والانفتاح وتثمين الإنسانية، باعتبارها المظلّة الكبرى التي تسع الجميع"، يقول إبراهيم قفاف، أحد الذين التقينا بهم في عين ماضي، مُستشهدًا بقصة السيد عمار التيجاني، الملقب بالأمير، وهو أحد مشايخ الطريقة، والذي جمعت بينه وبين الفرنسية أوريلي بيكار قصة حب أفضت إلى الزواج. "هذه القصة من بين التجارب الإنسانية الدالة على معاني تعاليم الطريقة"، يقول قفاف.


التعدّد في جنسيات وملامح ولغات مريدي الطّريقة التجانية، هو ثمرة لأدبياتها وتعاليمها القائمة على التسامح والانفتاح وتثمين الإنسانية

وتقول الروايات التاريخية إن السلطات الفرنسية لما اعتقلت الخليفة الرابع للتيجانية، عمار التيجاني، بسبب المساعدات التي كان يقدمها للمقاومة الجزائرية، أودعته سجن مدينة بوردو الفرنسية، وهناك وقع في حب ابنة مدير السجن. ولمّا أطلق سراحه، تزوجها وعاد بها إلى بلده عين ماضي، وأقام لها بيتًا هو من التحف المعمارية في الصحراء الجزائرية.



تعليقات

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

رسالة مفتوحة إلى رئيس الجمهورية السيد عبد المجيد تبون

سيدي الرئيس، أتمنى أن تصلكم هذه الرسالة و أنتم بصحة جيدة. أكتب إليكم اليوم بقلب مثقل لأعبر عن قلقي العميق واستيائي لوجود أكثر من 1.2 مليون مغربي في أرض الجزائر الطاهرة. كمواطن مسؤول ومعني ، أشعر أنه من واجبي أن أوجه انتباهكم إلى هذا الأمر. أود أولاً أن ألفت انتباهكم إلى الروابط بين أجهزة المخابرات الإسرائيلية والمغرب. لقد تم الكشف أن الموساد يجند بشكل كبير في الجالية المغربية في فرنسا. هل لدينا ضمانة أن الكيان الصهيوني لا يفعل الشيء نفسه في الجزائر؟ هذه القضية مصدر كرب وإحباط لمواطني بلادنا الذين يفقدون الأمل في التمثيلية الوطنية التي يفترض أن تدافع عن المصلحة العليا للوطن. لماذا يجب أن نبقي على أرضنا رعايا دولة معادية؟ لماذا لا نعيد هؤلاء إلى وطنهم لتفاقم الأزمة الاجتماعية والاقتصادية لبلد يتآمر ضد مصالحنا ويغرق بلدنا بأطنان من المخدرات؟ لماذا يجب أن نتسامح مع وجود اليوتيوبرز المغاربة في الجزائر الذين يسخرون يوميا من الشعب الجزائري؟ نعتقد أن الجزائر يجب أن تقطع العلاقات القنصلية مع المغرب في أسرع وقت ممكن ، لأن الغالبية العظمى من الشعب المغربي يشتركون في نفس الأطروحات التوسعية مثل ن...

دعم فرنسي للخطة المغربية للحكم الذاتي للصحراء الغربية

 أعربت الجزائر، يوم الخميس، عن "استنكارها الشديد" للقرار الفرنسي الأخير بدعم خطة الحكم الذاتي المغربية للصحراء الغربية. وقد وصف هذا الموقف بأنه "غير متوقع، وغير مناسب، وغير مجدي" من قبل وزارة الخارجية الجزائرية. وقد أكدت الحكومة الجزائرية بوضوح أنها ستستخلص جميع العواقب المترتبة عن هذا القرار، محملة الحكومة الفرنسية المسؤولية الكاملة. وقد أثار الاعتراف الفرنسي بخطة الحكم الذاتي المغربية، التي تُعتبر إضفاءً للشرعية على السيادة المتنازع عليها للمغرب على الصحراء الغربية، رد فعل حاد في الجزائر. ونددت وزارة الخارجية الجزائرية بهذا القرار باعتباره عملاً داعماً "لفعل استعماري"، يتعارض مع مبادئ إنهاء الاستعمار التي تدعمها المجتمع الدولي. ويعتبر هذا الموقف أكثر إثارة للجدل بالنظر إلى أنه صادر عن عضو دائم في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، الذي من المفترض أن يحترم ويعزز الشرعية الدولية. وتعتبر الجزائر هذا القرار عائقاً أمام الحل السلمي لقضية الصحراء الغربية، مشيرة إلى أن خطة الحكم الذاتي المغربية قد أدت إلى مأزق مستمر منذ أكثر من سبعة عشر عاماً. وأعربت الوزارة عن أ...

عبد العزيز رحابي يحلل اتفاقية الشراكة مع الاتحاد الأوروبي

 في مقابلة مع TSA Algérie ، تحدث عبد العزيز رحابي، الدبلوماسي والوزير الجزائري السابق، عن توقيع اتفاقية الشراكة بين الجزائر والاتحاد الأوروبي (EU)، ودور الدبلوماسية الجزائرية وتأثير الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة. النقاط الرئيسية في المقابلة مشاكل اتفاقية الشراكة الجزائر-الاتحاد الأوروبي : انتقد رحابي اتفاقية الشراكة موضحًا أنها لم تحقق الأثر المتوقع للجزائر. وأعرب عن أسفه لعدم وجود حوار حقيقي بين الجزائر وأوروبا حول القضايا الحيوية مثل الأمن الإقليمي، الإرهاب، الهجرة والتهديدات الاقتصادية والاستراتيجية. شدد على أن الجزائر خسرت ما يقرب من 16 مليار دولار نتيجة التفكيك التدريجي للتعريفات الجمركية المنصوص عليه في الاتفاقية، في حين أن الاستثمارات الأوروبية في الجزائر ظلت ضعيفة. دور الحكم الرشيد والدبلوماسية : أكد رحابي على أهمية الحكم الرشيد لتجنب توقيع الجزائر على اتفاقيات تجارية غير مواتية. انتقد الإدارة الجزائرية لافتقارها للإصلاحات واعتمادها على اقتصاد الريع، مما يعرقل جهود التحديث والتكيف مع التغيرات الاقتصادية العالمية. مفاوضات الاتفاقية : أشار رحابي إلى أن فكرة التعاون الأورو...