تشهد العلاقات بين فرنسا والجزائر، التي لطالما اتسمت بالتوتر والتعقيد، واحدة من أعمق أزماتها منذ استقلال الجزائر عام 1962. ويتجلى هذا التوتر في سلسلة من التصريحات النارية، والإجراءات التصعيدية، والمواقف التي لا تؤدي إلا إلى تعميق الهوة بين البلدين.
ومن بين الأحداث الأخيرة الأكثر إثارة للجدل، تصريحات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، الذي اتهم الجزائر بـ"فقدان شرفها" عقب اعتقال الكاتب بوعلام صنصال. غير أن هذا الأخير متابع بموجب المادة 87 مكرر من القانون الجزائري، بتهمة المساس بالوحدة الوطنية، وهي قضية تندرج ضمن نطاق القانون العام ولا تمت بصلة إلى حرية التعبير.
وفي هذا السياق، يبرز تساؤل جوهري: هل يمكن لفرنسا، التي تنصب نفسها كمدافعة عن الشرف والحقوق، أن تدّعي النزاهة وهي تمارس سياسات تمييزية وتتمادى في الاستفزازات الصبيانية ضد المواطنين الجزائريين على أراضيها؟
تصعيد متزايد بين باريس والجزائر
تتزايد التوترات بين فرنسا والجزائر في سياق تصعيد دبلوماسي غير مسبوق. ففي أقل من شهرين، تم استدعاء السفير الفرنسي في الجزائر، ستيفان روماتيه، مرتين للتعبير عن احتجاج الحكومة الجزائرية. الاستدعاء الأخير جاء بعد شكاوى عديدة من مواطنين جزائريين تعرضوا لمعاملة "مهينة" في المطارات الفرنسية، وخصوصاً مطاري شارل ديغول وأورلي.
وفقاً للبيان الصادر عن وزارة الخارجية الجزائرية، اشتكى عدد من الجزائريين من خضوعهم لإجراءات تفتيش "مطولة ومهينة"، حيث تم تخصيص نافذة واحدة فقط لاستقبال المسافرين الجزائريين، مما أدى إلى طوابير طويلة ومعاملة تمييزية لا يمكن قبولها. وقد اعتبرت الجزائر أن هذه الممارسات تمثل انتهاكاً لكرامة مواطنيها، وأكدت رفضها القاطع لأي استغلال لهم كأداة للضغط أو الابتزاز.
هل هذه الإجراءات انتقام سياسي؟
لا يمكن فهم هذه الإجراءات بمعزل عن السياق السياسي الأوسع. التوترات بين البلدين تصاعدت في الأشهر الأخيرة بسبب عدد من القضايا، مثل رفض الجزائر استقبال أحد المؤثرين الجزائريين الذي طُرد من فرنسا، واتهامات الجزائر لفرنسا بمحاولة زعزعة استقرارها الداخلي من خلال دعم بعض الجماعات المعارضة.
هذه الإجراءات التمييزية التي يتعرض لها الجزائريون في المطارات الفرنسية يمكن تفسيرها كوسيلة ضغط غير مباشرة تمارسها فرنسا ضد الجزائر. ولكن هذه الممارسات تثير تساؤلات أخلاقية وسياسية: كيف يمكن لدولة تدعي احترام حقوق الإنسان أن تتبنى سياسات تستهدف مواطنين أبرياء لمجرد جنسيتهم؟
مفارقة النقد الفرنسي للجزائر
تصريحات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، التي يتهم فيها الجزائر بـ"فقدان شرفها" بسبب اعتقال بوعلام صنصال، تفتقر إلى التوازن والإنصاف. من المفارقات الصارخة أن فرنسا، التي لا تملّ من التباهي بدفاعها عن القيم العالمية كالحرية والكرامة، تمارس في الوقت ذاته انتهاكات سافرة بحق المواطنين الجزائريين على أراضيها.
هذا الخطاب ليس سوى مثال آخر على ازدواجية المعايير التي تتبناها باريس، حيث تتخذ موقف القاضي حين يتعلق الأمر بالجزائر، بينما تتجاهل، بل وتشرعن، ممارسات تمييزية ومهينة تتعارض مع المبادئ التي تزعم الدفاع عنها. فكيف يمكن لدولة تدّعي أنها منارة للديمقراطية أن تبرر مثل هذه السياسات الظالمة، وتسمح بإهانة مواطنين أبرياء فقط لأنهم جزائريون؟
أزمة غير مسبوقة منذ الاستقلال
تعتبر هذه الأزمة بين البلدين الأكثر خطورة منذ استقلال الجزائر. وقد تفاقمت الأزمة بعد قرار فرنسا الاعتراف بسيادة المغرب على الصحراء الغربية، وهو موضوع حساس للغاية بالنسبة للجزائر. بالإضافة إلى ذلك، أثارت اعتقالات مواطنين جزائريين في فرنسا والتصريحات العدائية من بعض السياسيين الفرنسيين من أقصى اليمين غضباً واسعاً في الجزائر.
تُظهر هذه التطورات أن العلاقة بين البلدين تجاوزت الخلافات التقليدية وأصبحت مهددة بانهيار كامل إذا لم يتم احتواؤها بشكل عاجل.
هل تتحول فرنسا إلى "دولة مارقة"؟
إن تصرفات فرنسا تجاه الجزائر ومواطنيها تثير تساؤلات جدية حول مدى التزامها بالقيم التي تدّعي الدفاع عنها على الساحة الدولية. فالممارسات التمييزية والمعاملة المهينة التي يتعرض لها الجزائريون في المطارات، إلى جانب التصريحات العدائية الصادرة عن مسؤوليها، تكشف عن سياسة استفزازية وغير مسؤولة، تتناقض تمامًا مع مبادئ الحرية والمساواة التي تروج لها باريس.
إذا كانت فرنسا ترغب في الحفاظ على مصداقيتها، فعليها أولًا احترام حقوق الإنسان داخل حدودها، والتوقف عن استخدام المواطنين الأجانب كأدوات ضغط لتحقيق أجنداتها السياسية.
إن عجز فرنسا عن مواجهة الجزائر بندية يفضح ضعفها المتزايد، وهو ضعف تفاقم بفشل استراتيجياتها القديمة في التدخل والتأثير. ومع انهيار "طابورها الخامس" داخل الجزائر—وهو الذي أسقطه الوطنيون الجزائريون الذين دافعوا بشراسة عن سيادة وطنهم—لم يعد أمام باريس سوى اللجوء إلى تصرفات صبيانية وبائسة، لا تليق بدولة تتشدق بالعظمة.
بعد استهداف شخصيات مؤثرة جزائرية بشكل انتقائي، ها هي فرنسا اليوم تحوّل أنظارها نحو المواطنين البسطاء، محاولةً بأساليب خبيثة وغير أخلاقية ممارسة ضغوط غير مباشرة على الجزائر. الهدف من هذه التحركات هو زرع الفتنة والشك في نفوس الجزائريين، ودفعهم إلى الانقلاب على وطنهم. لكن هذه الحسابات، مهما بدت دقيقة في نظر مدبّريها، ليست سوى أوهام محكومة بالفشل الذريع.
ما لا تدركه باريس هو أن الجزائري، الذي صقلته سنوات طويلة من النضال والتحديات، يستمد قوته من وحدته وصلابته. فكلما اشتد الضغط، زاد ارتباطه بأرضه ووطنه. والتاريخ يشهد على ذلك: الجزائري لا يخون بلاده، ولا توجد مؤامرة، مهما كانت خبيثة، قادرة على كسر هذا الرابط المقدس.
إن هذه الممارسات الانتقامية الدنيئة والتصرفات الصبيانية التي لا تليق بدولة تدّعي الدفاع عن حقوق الإنسان، لن تؤدي إلا إلى تقوية وحدة الصف الجزائري. فكل استفزاز فرنسي لا يزيد الجزائريين إلا تماسكًا والتفافًا حول دولتهم، التي ترد على هذه الإهانات بردود حازمة ومشرفة، تُجسد العزة الجزائرية بأسمى معانيها.
وفي المقابل، تجد فرنسا نفسها في موقف مخزٍ على الساحة الدولية. لقد أصبحت مكشوفة، ضعيفة، ومرتبكة، غير قادرة على تقبل حقيقة أن الجزائر قد تحررت نهائيًا من هيمنتها، ليس فقط سياسيًا، بل أيضًا ثقافيًا واقتصاديًا.
خلاصة
إن إصلاح العلاقات بين الجزائر وفرنسا يتطلب نهجاً قائماً على الاحترام المتبادل والتخلي عن السياسات الاستفزازية. لا يمكن لفرنسا أن تطالب الجزائر باحترام القيم الإنسانية بينما هي نفسها تنتهك حقوق الجزائريين. إن استمرار هذه الممارسات التمييزية لن يؤدي إلا إلى زيادة عزلة فرنسا وتقويض مصداقيتها على المستوى الدولي.
إن محاولة فرنسا استغلال الجزائريين كورقة ضغط ضد دولتهم لن تؤدي إلا إلى نتائج عكسية. فالجزائر، بتاريخها المجيد وبشعبها الصامد، تبقى واقفة، فخورة ومستقلة، بينما تتخبط فرنسا في تناقضاتها، غير قادرة على تجاوز الماضي، وعاجزة عن التعايش مع واقع أمة جزائرية حرة وقوية.
بلقاسم مرباح
تعليقات
إرسال تعليق