الموقف الأخير لفرنسا بشأن قضية الصحراء الغربية أشعل عاصفة سياسية في العلاقات المتوترة أصلاً بين الجزائر وباريس. ففي تصريح مثير للجدل أمام الجمعية الوطنية الفرنسية، دافع وزير الخارجية جان-نويل بارو عن قرار الاعتراف بسيادة المغرب على الصحراء الغربية، واصفاً ردود فعل الجزائر على هذا التحول السياسي بأنها "غير مبررة تماماً". وبحسب قوله، فإن الجزائر ليست معنية مباشرة بقضية الصحراء الغربية، وأن هذا التغيير في الموقف الفرنسي لا يؤثر بأي شكل على مصالحها. هذا التصريح، الذي يتسم بعدم المسؤولية ويفتقر إلى الدقة، يتجاهل بشكل صارخ الحقائق الجيوسياسية والتاريخية في المنطقة. وبدلاً من تهدئة التوترات، عمّق هذا التحرك الأحادي الخلافات بين البلدين، مما زاد من تأزيم علاقة مليئة بتحديات معقدة تمزج بين التاريخ والاستراتيجيا والأمن.
تغيير يُنظر إليه كاستفزاز للجزائر
بالنسبة للجزائر، قضية الصحراء الغربية ليست مجرد نزاع إقليمي بين المغرب وجبهة البوليساريو، بل هي مسألة ترتبط مباشرة بالأمن القومي والسيادة الوطنية. فالجزائر تستضيف على أراضيها آلاف اللاجئين الصحراويين في مخيمات تندوف، وتدعم جبهة البوليساريو التي تعتبرها حركة تحررية شرعية. ومنذ عقود، ظلت الجزائر تدافع عن حق الشعب الصحراوي في تقرير المصير، استناداً إلى قرارات الأمم المتحدة.
لكن الاعتراف الفرنسي بمغربية الصحراء يُنظر إليه في الجزائر كاصطفاف واضح إلى جانب المغرب، مما يثير مخاوف عميقة. فالجزائر ترى في هذا الاعتراف خطوة تشجع الطموحات التوسعية للمغرب، التي قد تمتد مستقبلاً إلى الأراضي الجزائرية، مثل منطقتي تندوف وبشار. وتستند هذه المخاوف إلى المادة 42 من الدستور المغربي، التي تشير إلى "الحدود الحقّة"، بالإضافة إلى خرائط رسمية مغربية تُظهر مناطق من الغرب الجزائري كجزء من "المغرب الكبير". وعليه، ترى الجزائر أن الاعتراف الفرنسي بمغربية الصحراء لا يهدد فقط حق الصحراويين في تقرير المصير، بل يفتح الباب أمام تهديد مباشر لاستقرار الحدود الجزائرية.
العلاقات الجزائرية-الفرنسية في طريق مسدود
هذا الخلاف يُضاف إلى سلسلة من الأزمات التي عرقلت العلاقات بين الجزائر وفرنسا على مر السنين. فرغم التصريحات الرسمية التي تصف العلاقة بين البلدين بأنها "عميقة"، إلا أن التوترات التاريخية والجيوسياسية تُلقي بظلالها الثقيلة عليها. في أكتوبر الماضي، تحدث وزير الداخلية الفرنسي جيرالد دارمانان عن "علاقة وثيقة للغاية" بين البلدين، مؤكداً أهمية الشراكة الاستراتيجية بينهما.
لكن الموقف الفرنسي الأخير يجعل هذه التصريحات تبدو بعيدة عن الواقع. فالجزائر ترى أن فرنسا تتجاهل مصالحها الحيوية في هذه القضية وتفضّل تعزيز شراكتها مع المغرب، المنافس التقليدي للجزائر. وفي نظر القيادة الجزائرية، هذا الموقف الفرنسي يقوض الثقة المتبادلة اللازمة لتعزيز التعاون الثنائي. كيف يمكن الحديث عن علاقة "وثيقة" إذا كانت إحدى الأطراف تشعر بالتجاهل، بل وحتى بالازدراء، فيما يتعلق بمصالحها الأمنية والجيوسياسية؟
أزمة متعددة الأبعاد
الأزمة الحالية بين باريس والجزائر تتجاوز قضية الصحراء الغربية. فهي تكشف عن اختلافات جوهرية في رؤى البلدين تجاه التحديات الإقليمية والدولية. بالنسبة للجزائر، دعم الشعب الصحراوي ليس فقط مسألة مبدأ، بل أيضاً وسيلة لاحتواء ما تعتبره طموحات توسعية مغربية. فقبول السيادة المغربية على الصحراء الغربية يعني، من منظور الجزائر، تشجيع المغرب على توسيع نطاق مطالبه لتشمل أراضي جزائرية.
أما فرنسا، فتبرر موقفها بالرغبة في تعزيز علاقتها مع المغرب، الذي يُعتبر شريكاً استراتيجياً في شمال إفريقيا. لكن هذا الاصطفاف مع المغرب يُعتبر في الجزائر بمثابة تجاهل لمصالحها، مما قد يؤدي إلى زعزعة الاستقرار الإقليمي. كما أن هذا التوتر قد يُلقي بظلاله على ملفات أخرى حساسة مثل التعاون الأمني، العلاقات الاقتصادية، وإدارة تدفقات الهجرة.
ما هو مستقبل العلاقات الجزائرية-الفرنسية؟
يمكن أن يشكل الاعتراف الفرنسي بمغربية الصحراء الغربية نقطة تحول في العلاقات بين باريس والجزائر. هذا القرار قد يعمّق عزلة فرنسا دبلوماسياً مع الجزائر ويزيد من تأزيم العلاقات بين البلدين. كما أنه قد يُضعف فرص المصالحة بين الجزائر والمغرب، ويؤدي إلى مزيد من التوترات في المنطقة.
لتجاوز هذا المأزق، يبدو من الضروري أن تتبنى فرنسا نهجاً أكثر توازناً يأخذ بعين الاعتبار مصالح وحساسيات شركائها في المغرب العربي. فالسياسة الأحادية الجانب تُهدد بتفاقم التوترات الإقليمية وزعزعة الاستقرار في منطقة تعاني أصلاً من أزمات معقدة.
الخلاصة
تُظهر هذه القضية مدى تعقيد العلاقات الدولية، حيث تتداخل فيها المصالح الجغرافية-السياسية مع التاريخ والاقتصاد والأمن. تجد فرنسا نفسها في موقف حرج، حيث أن قراراتها، مهما كانت، لها تداعيات عميقة على علاقاتها مع الجزائر والمغرب. لذا، من المهم أن تعيد باريس تقييم استراتيجيتها وأن تسعى إلى بناء شراكات قائمة على الحوار والاحترام المتبادل، من أجل تحقيق التوازن بين الحفاظ على مصالحها وضمان الاستقرار الإقليمي.
بلقاسم مرباح
تعليقات
إرسال تعليق